لن تبقى تجارة الذهب في لبنان بعد زيارة وفد وزارة الخزانة الأميركية لبيروت كما كانت قبله. فالوفد الأميركي الذي حدّد هدف زيارته بقطع طريق التمويل على حزب الله، حدّد أيضاً آلية التمويل، وإن لم يتمكن من ضبط مساراتها فعلياً.
فالوفد الأميركي رجّح بأن الأموال تمرّ من إيران إلى حزب الله عبر الإمارات وتركيا على نحوٍ رئيس. لكنه جزم مرورها عبر تجارة الذهب والعملات المشفّرة تحديداً، وربما بواسطة مسارات تجارية أخرى يصعب التحقق منها.
من هنا بات الهدف واضحاً: ضبط مسارات تجارة الذهب على نحوٍ أساسي بين لبنان والخارج. وهو ما تعمل عليه السلطات المعنية اليوم؛ أي مطاردة استيراد الذهب وإخضاعه للرقابة عبر الحدود البحرية والجوية وداخل البلد.
ولكن هل يمكن تعقّب مسارات الذهب أو ضبطها كما الأموال النقدية؟
المسألة لن تكون سهلة، لا بل أكثر من ذلك، قد تكون مستحيلة في ظل اتساع اقتصاد الكاش، وعدم خضوع تجار الذهب لأي من المؤسسات الرقابية التي تُعنى بالشأن النقدي كما الصرافين وشركات التحويل. فمحلات الذهب والمجوهرات، كما باقي المحال التجارية، تخضع للقانون التجاري وقانون حماية المستهلك مع بعض الضوابط الشكلية لضمان حقوق البائع والشاري.
رقابة على محلات الذهب!
تتجّه السلطات في لبنان إلى رسم خريطة من الضوابط على حركة الأموال والذهب، للتحقّق من مصدرها ووجهتها قطعاً لطريق تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وفي حين يُتوقع أن يُصدر مصرف لبنان قريباً قرارات للتشدّد بعمليات التداول بالدولار داخل البلد، يعمل وفق معلومات “المدن” على خط موازٍ، مع وزارتي الاقتصاد والمالية ونقابة تجار المجوهرات والذهب لوضع تصوّر يضمن شفافية عمليات التداول بالذهب واستيراده وتبيان مصدره ووجهته.
لكن وفق مصدر معني بالملف، فإن عملية ترصّد حركة الذهب تعتبر أمراً صعباً. فقطاع الذهب والمجوهرات هو قطاع تجاري بحت، لا يملك لا الخبرة ولا الآليات التي تخوّله الالتزام بمعايير الرقابة والامتثال، كما هو حال المصارف والمؤسسات المالية التي تخصّصت أقسام فيها بعمليات التدقيق والامثتال.
في شكل أولي، سيُعمّم نموذج موحّد على محلات المجوهرات والذهب لفرض تعبئته على الزبون الذي يشتري أو يبيع بأكثر من 10 آلاف دولار، بهدف التحقق من مصدر المال والذهب ووجهته. ويرى المصدر في حديثه إلى “المدن” أن هذا الإجراء لن يُحدث أي فارق في مسألة إدخال الأموال إلى لبنان عن طريق الذهب. فالتعاملات النقدية “الكاش” كفيلة بتأمين السيولة لمستوردي الذهب ومتداوليه في الداخل، أياً كانوا.
يقوم حالياً أصحاب محال الذهب، وليس الزبائن، بتعبئة مستند يتضمن معلومات عن عملية شراء في حال كانت تفوق 10 آلاف دولار من كبار التجار. ويحدّد الشاري بموجب المستند مصدر أمواله، وفي حال المبيع يحدّد مصدر الذهب. ويقول نقيب تجار الذهب والمجوهرات في لبنان نعيم رزق في حديثه إلى”المدن” إن عمليات بيع وشراء الذهب تتم حالياً وفق الطريقة التقليدية المتبعة منذ أربعين أوخمسين عاماً، من دون إجراءات خاصة أو قيود إضافية، معتبراً أن مسألة القيود والضوابط على تجارة الذهب لن تكون سهلة. فالنقابة لا تضم جميع تجار الذهب ومحال المجوهرات.
ويتراوح عدد الصاغة المسجلين رسمياً لدى النقابة بين 400 و500 تاجر، في حين يلتزم فعلياً نحو 100 إلى 150 فقط بسداد الإشتراكات. وليس هناك أرقام دقيقة لعدد تجار الذهب ومحال المجوهرات في البلد.
آلية إدخال الذهب
من حيث المبدأ، تقتصر عمليات استيراد الذهب وإدخاله إلى البلد على من يملك سجلاً تجارياً، ويعمل في تجارة الجملة. أما صغار التجار فيشترون الذهب من هؤلاء لتوزيعه على محال التجزئة. ولكن يُسمح لأي وافد أيضاً أن يُدخل الذهب إلى البلد وبكميات غير محدودة وفق مصدر جمركي رفيع.
ويوضح المصدر الجمركي في حديثه إلى”المدن” أنه يُسمح للوافد إلى لبنان بإدخال كميات من الذهب من دون سقف محدّد، شرط أن تتم العملية ضمن الإطار النظامي والجمركي. فعلى الوافد أن يقوم بـإشعار دائرة الجمارك في المطار أو المرفأ، على أن يكون لديه رقم مالي، وأن تُسجل العملية في فواتير رسمية.
ويُصار إلى جمركة الذهب، سواء أُدخل عبر الشحن أو باليد، مع التحقق من مصدر الأموال والفواتير لتفادي أيّة شبهات بتبييض أموال. أما التحقق من نوع الذهب أو قيمته الدقيقة فيُحال إلى خبير متخصّص عند الحاجة. ولا يوجد حالياً أي تقييد أو سقف رسمي على إدخال أو إخراج الذهب من لبنان.
من هنا تتّضح سهولة إدخال الذهب إلى البلد. ويُعد بيعه أسهل من إدخاله؛ إذ يمكن بيعه لدى أي تاجر مجوهرات والتداول بالكاش، مع الإشارة إلى أنه يمكن لأي كان أن يستحوذ على ترخيص بالاتجار بالذهب. فالأمر يستلزم رخصة محل تجاري كسائر المحال أو تاسيس شركة مهما بلغ حجمها.
مستوردات الذهب ارتفاع هائل
تبيّن الأرقام ارتفاعاً هائلاً في حجم الذهب الداخل إلى لبنان في الفترة الأخيرة، وحتى في الكميات المصدّرة إلى الخارج، لاسيما من وإلى الإمارات، وهي أحد البلدين اللذين صوّب الموفد الأميركي قبل مغادرته لبنان إصبعه في اتجاههما (الإمارات وتركيا)، على أنهما معبر للأموال الإيرانية الى حزب الله في لبنان.
ليس غريباً أن تحتل المجوهرات والذهب والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة المرتبة الثانية بين أبرز السلع المستوردة إلى لبنان، لكن الغريب في الأمر هو ارتفاع تلك المستوردات بأكثر من 3 أضعاف.
بالأرقام، ووفق بيانات مديرية الجمارك، بلغت مستوردات المجوهرات والذهب والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة لغاية شهر تموز 2025، ما قيمته 1.751 مليار دولار أميركي؛ أي نحو 15.3 في المئة من إجمالي الواردات. وللمقارنة، لم تتجاوز قيمة المستوردات من الفئة نفسها 440 مليون دولار فقط في النصف الأوّل من العام 2019.
وباحتساب المتوسط الشهري للفترتين، ارتفعت القيمة من نحو 73.3 مليون دولار شهرياً في 2019 إلى حوالي 250.1 مليون دولار حالياً؛ أي ما يعادل زيادة بمقدار 3.4 أضعاف خلال سنوات الأزمة وتحديداً عام 2025.
هذا الارتفاع يعكس التحول الواضح في دور المعادن الثمينة داخل الميزان التجاري اللبناني؛ إذ باتت تشكل أحد أبرز موارد العملات الأجنبية إلى البلد. أما تعقّب العملات الأجنبية في ظل اقتصاد الكاش، فيكاد يكون كما البحث عن إبرة في “كومة قش“.
وقد اتسعت التعاملات النقدية في لبنان لتغطي 90 في المئة من مجمل التعاملات المالية في البلد في العام 2025، وفق تصنيفForex. Se ، وهو ما يعني أنه حتى اللحظة يمكن لأي كان إدخال الذهب بالكميات التي يريدها عبر المطار أو أي من المرافئ بشكل قانوني، وبيعه في السوق اللبنانية، وإدخال دولاراته في دورة اقتصادية طبيعية.
فمن دون ضبط الاقتصاد النقدي، لا يمكن ضبط عمليات التحويل المالي إلى لبنان عبر الذهب أو العملات المشفرة أو أي من المنتجات الأخرى.
مطاردة الذهب لوقف تمويل الحزب: هل التعقُّب ممكن؟ .




