تخيّل أنك تعاني من آلام في المفاصل أو مشاكل في الجلد، فتسمع عن ينابيع ساخنة في أوروبا تعالج هذه الأمراض، فتقرر السفر إلى تشيكيا إلى مدينة “كارلوفي فاري” وأنت لا تعلم أنك على بُعد أمتار معدودة من الكنز نفسه في وطنك.
في شمال لبنان، وتحديدًا في عكّار، تتدفق ينابيع مياه كبريتية ساخنة منذ عقود، مياه عُرفت بقدرتها على معالجة أمراض المفاصل والجلد والجهاز التنفسي، تمامًا كما في كارلوفي فاري . ومع ذلك، تبقى هذه الثروة الطبيعية مهملة وغير مستغلة، بينما يفضل كثير من اللبنانيين البحث عن الفوائد نفسها في الخارج، تاركين ما لديهم في الداخل دون انتفاع كامل.
كان هذا النبع، منذ اكتشافه عام 1969 خلال عمليات التنقيب عن النفط، رمزًا للأمل والحياة في منطقة تحتاج إلى فرص إنمائية وسياحية. في كلّ صباح، كانت المياه تتدفق، تنشر دفئًا وراحة، وتبث في المكان روحًا من الأمل، ليس فقط في علاج الأمراض الجلدية والمفصلية، بل في تذكير أهالي البلدة بقيمة الطبيعة ومنافعها. حافظ الأهالي والبلدية على هذه الغرفة الصغيرة التي تضمّ النبع بين حجارتها، كونه يروي قصة معلم طبيعي استثنائي لم تتم الاستفادة منه على الصعيد الوطني، كحال الكثير من المعالم الطبيعية التي تكتنزها عكار النائية.
هذا المعلم لا يزال يحرّك مشاعر الأهالي الذين يسعون للحفاظ عليه بكل ما أوتوا من قوّة. فعقب اكتشاف النبع، استقطب سياحًا وخبراء وأطباء من لبنان والخارج، أكدوا خصائصه العلاجية الفريدة، وذهب بعضهم إلى وصفه بأنه الوحيد من نوعه في العالم العربي. وتقديرًا لقيمته، شرعت وزارة السياحة اللبنانية في بناء استراحة سياحية تضمّ منتجعًا صحيًا ومركزًا علاجيًا في منطقة العريضة قرب الحدود اللبنانية – السورية. وتمّ مدّ قساطل بطول ثلاثة كيلومترات لنقل المياه الساخنة إلى المسابح. لكن اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 حال دون افتتاح المشروع، فتوقفت الأعمال وبقيت المنشآت غير مكتملة، وبدأ النبع بالتراجع تدريجيًا.
يشكو الأهالي غياب الاهتمام الرسمي بهذا الكنز الطبيعي، وحرمانه من حرمان البلدة وكلّ بلدات عكار وهم يحاولون الحفاظ عليه ما أمكن ومنع التعدّيات التي قد تؤدي إلى نضوبه بالكامل.
ترحيب بأي مبادرة
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس بلدية السماقية سامي السعيد لـ “نداء الوطن” أن “المجلس البلدي يفتح قلبه لكل اللبنانيين والسياح العرب والأجانب لزيارة البلدة والاطلاع على هذا المعلم الطبيعي المفيد”، مشدّدًا على الترحيب بأي مبادرة رسمية أو خاصة لإعادة تسليط الضوء على النبع واستثماره بما يخدم المنطقة.
رافعة اقتصادية وسياحية
من جهته، يشير المهندس بلال الشعمة وهو من الناشطين للحفاظ على تراث البلدة، إلى الأهمية العلاجية للمياه الكبريتية ويدعو وزارة السياحة إلى إدراج النبع كمعلمٍ سياحي وطني على الخريطة السياحية اللبنانية، معتبرًا أن إعادة تأهيله والاستفادة منه قدر الإمكان أسوة بما يحصل في العديد من البلدان التي تحوي مثل هذه الثروة، يمكن أن تُشكّل رافعة اقتصادية وسياحية وعلاجية للمنطقة، مع إمكانية تطويره كمركز بيئي وتعليمي يتيح للزوار والباحثين دراسة خصائص المياه الكبريتية وفوائدها الصحية.
موارد نادرة مهملة
يبقى نبع السماقية اليوم رمزًا لموارد طبيعية نادرة مهملة، تجمع بين الفرص العلاجية والسياحية وبين المحاولات المحلية للحفاظ عليها. والسؤال المطروح أمام المسؤولين والجهات الرسمية: هل ستتحرك الدولة لإنقاذ هذا المورد الفريد وإعادته إلى خريطة التنمية، ووضعه على الخريطة السياحية؟ أم سيبقى شاهدًا آخر على الفرص الضائعة في شمال لبنان؟
“كارلوفي فاري لبنان”… كنزٌ علاجيّ مهمل في عكّار .