لبنان غير جاهز للدخول في الاتفاقيات الابراهيمية

Doc-P-1455794-639014715450054071

من غير المستبعد أن يكون الفاتيكان بديبلوماسيته الهادئة والبعيدة عن الأضواء وراء هذا الاهتمام الدولي غير المسبوق بلبنان، والذي يبدو واضحًا من خلال الحركة الكثيفة للموفدين الدوليين وكثرة المبادرات، التي تهدف إلى تجنيب

لبنان أولًا مخاطر أي حرب جديدة قد تشنّها إسرائيل، وثانيًا إلى إيجاد تسوية دائمة لهدنة حقيقية يلتزم بها جميع الأطراف، بمن فيهم إسرائيل، التي تواصل اعتداءاتها اليومية، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة التفاوض لضمان استقرار محلي سيكون له انعكاس حتمي على الاستقرار العام في المنطقة بأسرها، التي باتت على قاب قوسين أو أدنى من تسوية إقليمية شاملة تعمل عليها الولايات المتحدة الأميركية بالتنسيق مع الدول الأوروبية ودول عربية فاعلة، من دون استبعاد ما لتركيا من دور متقدّم في شمولية هذه التسوية.

فزيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان بعد تركيا جاءت وسط التسارع الإقليمي والدولي لإعادة رسم خرائط النفوذ بعد حرب غزة وما تفرّع عنها من جبهات، حيث أُعيد إدراج اسم لبنان في كواليس النقاش حول توسيع الاتفاقات الإبراهيمية. غير أنّ هذا الإدراج، على رغم ما يأخذ من حيز واسع في الاهتمامات الأميركية، قد لا يعكس حتى الساعة مسارًا واقعيًا، بقدر ما يعبّر عن رهان خارجي مؤجّل على تحوّلات داخلية لم تنضج بعد، أو ربما على وقائع يجري العمل على فرضها من خارج الحدود.

ليس خافيًا على أحد أنّ الولايات المتحدة الأميركية، وبدعم أوروبي وخصوصًا فرنسي، تعمل على تثبيت مقاربة جديدة للمنطقة قوامها ثلاث ركائز، وهي: أمن إسرائيل، ضبط الجبهات، وربط المساعدات وإعادة الاعمار والاستقرار بمسارات سياسية أوسع. وفي هذا السياق، يُطرح لبنان ضمن سلّة الملفات، لا بوصفه دولة جاهزة للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية، بل كساحة تحتاج أولًا إلى إعادة ضبط.

فلبنان، بخلاف دول عربية أخرى وقّعت أو فاوضت، لا يزال يعيش حالة انقسام بنيوي حول علاقته بإسرائيل، فضلًا عن استمرار وجود سلاح خارج إطار الدولة، ما يجعل أي حديث عن تطبيع أو اتفاقات سلام قفزة فوق الوقائع السياسية والدستورية.

وفي هذا الإطار، تبرز لجنة “الميكانيزم” كأداة أميركية – دولية لإدارة النزاع على الحدود الجنوبية، لا كبوابة لتطبيع سياسي. فاللجنة، التي وسّعت إطارها المدني – التقني، تهدف عمليًا إلى تثبيت وقف إطلاق النار، ومنع الانزلاق إلى حرب شاملة، وإيجاد آلية تواصل غير مباشر تُخفّف من منسوب التوتر.

لكن تحويل هذه اللجنة إلى مقدّمة لمسار سياسي أشمل، كما يحلو للبعض أن يروّج، يصطدم بحقيقة أنّ دورها محصور بإدارة الخطر، لا بتغيير طبيعة الصراع. فالتجارب السابقة، من اتفاق 17 أيار إلى تفاهم نيسان والقرار 1701، تؤكّد أنّ لبنان لطالما كان ميدان تسويات أمنية لا شريكًا سياسيًا متكافئًا.

العائق الأكبر أمام أي مسار من نوع الاتفاقات الإبراهيمية هو القرار اللبناني المنقسم. فـ”حزب الله” لا يزال يملك، على رغم ما يتعرّض له، فيتو استراتيجيًا واضحًا، انطلاقًا من موقعه الإقليمي وعقيدته السياسية، ويعتبر أن أي تطبيع، أيّا كان نوعه، هو خروج من معادلة الصراع. وفي المقابل، فإن الدولة لا تملك، بمؤسساتها الدستورية، القدرة على فرض خيار معاكس.

وعليه، فإن أي ضغط خارجي، مهما بلغ حجمه، يبقى غير قابل للترجمة في ظل ميزان القوى القائم، حيث إن قرار الحرب والسلم لا يزال خارج سلطة الدولة خلافًا للكلام الذي نسمعه من حين إلى آخر على لسان رئيس الحكومة.
ولكن ما هو لافت وسط كل هذه المعمعة هو الموقف الفرنسي من حيث المقاربة المختلفة، والتي يمكن القول بأنّ باريس هي أقل اندفاعًا في ملف التطبيع، وأكثر واقعية. فباريس، التي تدرك هشاشة الوضع اللبناني، تركّز على منع الانفجار الكبير، ودعم الجيش وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة. وهي تدرك أنّ الدفع بلبنان نحو اتفاقات كبرى من دون تسوية داخلية سيكون مغامرة غير محسوبة قد تؤدي إلى نتائج عكسية.

في الخلاصة يمكن القول إنّ حظوظ انضمام لبنان إلى الاتفاقات الإبراهيمية تبقى اليوم نظرية لا عملية. فلبنان حاضر في الحسابات الدولية، لكنه غائب عن القدرة على القرار. وقد يُستخدم اسمه كورقة تفاوضية في مرحلة لاحقة، إذا ما تغيّرت المعادلات الإقليمية وتبدّل ميزان القوى الداخلي.

لبنان غير جاهز للدخول في الاتفاقيات الابراهيمية .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print