إلغاء “قيصر” اختبار مصيري لسوريا

AP24366801335696

فتح المشرعون الأميركيون الباب أمام إعادة دمج سوريا من خلال المباشرة بإلغاء “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا”، لكنهم حوّلوا في الوقت نفسه شريان الحياة الاقتصادي للبلاد إلى اختبار مستمر لقدرة الرئيس السوري أحمد الشرع وفريقه على توفير الأمن والمساءلة والحكم الشامل. يوفر هذا الإلغاء الجديد لدمشق سبيلًا للخروج من عزلتها، لكن بالتوازي، يعزز نفوذ الولايات المتحدة على مرحلة انتقالية هشة في دولة لا تزال تعاني من ويلات الحرب وتداعيات العقوبات والنزاعات المحلية العالقة.

يُعدّ إلغاء “قانون قيصر” جزءًا من قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) البالغة قيمته نحو 900 مليار دولار، والذي أقرّه مجلس النواب الأميركي الأربعاء، وهو في طريقه إلى مجلس الشيوخ، ليحط في النهاية على مكتب الرئيس ترامب لتوقيعه. وتشير خطوة إلغاء “قانون قيصر” إلى تحوّل تاريخي في السياسة الأميركية. أما بالنسبة إلى الشرع وحكومته، فلا يُعدّ إلغاء “قانون قيصر” بمثابة طوق نجاة، بل اختبارًا مصيريًا. إنه أشبه بمقامرة قد تحدّد مستقبل سوريا ما بعد الأسد أو تدمّره.

ويستبدل إلغاء “قانون قيصر” العقوبات التلقائية الشاملة للقطاعات بنظام رقابي مدّته أربع سنوات، يُلزم البيت الأبيض بتقديم تقرير كل 180 يومًا حول مدى التزام دمشق بمعايير محدّدة في شأن تنظيم “داعش”، والمقاتلين الأجانب، وحماية الأقليات، والجرائم المالية، والمخدّرات، وانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بعد 8 كانون الأوّل 2024.

وبموجب هذا البند الجديد، يجوز للرئيس الأميركي إعادة فرض عقوبات موجّهة إذا فشلت سوريا في دورتين متتاليتين من التقييم، ما يشير إلى تحوّل من معاقبة الاقتصاد بشكل شامل إلى ضغط مركّز على الأفراد والكيانات المسؤولة عن انتهاكات جديدة. من هنا، يرسم القانون خطًا زمنيًا مفاده: يجب مقاضاة أي انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان ارتكبت بعد 8 كانون الأوّل 2024 بشكل فعّال، إذا أرادت دمشق تجنب ضغوط العقوبات المتجدّدة. غير أن المنتقدين يرون أن هذا التركيز على انتهاكات ما بعد 2024 يترك قضايا أخرى من دون حل. ويشدّدون على أنه لا يجب أن يكون “إلغاء قيصر بمثابة عفوٍ”.

ويؤكد المؤيّدون في الكونغرس أن “إلغاء” قانون قيصر “لا يعني نسيان فظائع الحرب السورية”، بل استبدال أداة قاسية ألحقت الضرر بالمدنيين بينما رسّخت النظام القديم، بقانون قائم على معايير يُقيّم الحكومة الجديدة بناءً على سلوكها الحالي. وأوضح أحد كبار المساعدين في الكونغرس أن هذا البند ينقل السياسة الأميركية “من عقاب تلقائي شامل للاقتصاد إلى اختبار محاسبة مُحدّد الأهداف: فإذا رفضت الحكومة السورية حماية الأقليات، ومحاكمة المُعتدين، وكبح المخدّرات والإرهاب، سيظلّ بإمكان الرئيس توجيه عقوبات مركّزة إلى المُذنبين – وليس إلى جميع السكان”.

ويحذر المعارضون من أن بند إعادة فرض العقوبات التقديري يُنذر بتراجع جدية المساءلة تجاه القيادات السورية، ويعتمد بشكل كبير على الإرادة السياسية في واشنطن. ويشيرون إلى أنه حتى بعد تقريرين فاشلين، فإن الرئيس الأميركي مُخوّل فقط، وليس مُلزمًا، بالتحرّك. وهو ما اعتبروه “تراجعًا في الضغط” قد ينظر إليه العديد من السوريين الذين اعتمدوا على “قيصر” كرمز للعدالة بعين الريبة.

وكان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب برايان ماست، الذي كان من أبرز المعارضين لإلغاء “قانون قيصر”، قد لخص في كلمته أمام مجلس النواب، المعضلة قائلًا: “إننا نمنح سوريا فرصة لرسم مستقبل ما بعد الأسد. ونفعل ذلك مع محاسبة الحكومة الجديدة على أفعالها، ومنح البيت الأبيض المرونة… لإعادة فرض العقوبات إذا رأى الرئيس ذلك ضروريًا”.

مكاسب أمنية أميركية في ساحة مكتظة

وترى مصادر واشنطن أن القيادة السورية الجديدة راهنت على شرعيتها بتحويل إلغاء العقوبات إلى تطبيع أوسع مع الشركاء العرب والغربيين، وحتى الإسرائيليين (رغم تعثر المفاوضات على هذا الصعيد). فقد “خلّف سقوط بشار الأسد العام الماضي بلدًا مفعمًا بالفرح، ولكنه مُحطّم”. فالشرع، بحسب دبلوماسيين سابقين، يرأس ائتلافًا انتقاليًا يعتمد بشكل كبير على شخصيات معارضة سابقة وحلفاء سابقين لـ “هيئة تحرير الشام”، مع وعده بدمج ما تبقى من بيروقراطية النظام. وهو يؤكد للمجتمع الدولي أن أولويات حكومته مبنية على الاستراتيجيات التالية: رفع شامل للعقوبات، ودمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بقيادة الكرد، والسويداء ذات الغالبية الدرزية، والتعايش السلمي مع إسرائيل. وقد لفت تشارلز ليستر، كبير الباحثين في “معهد الشرق الأوسط”، إلى أن الشرع قدّم فريقه على أنه شريك إصلاحي، مروّجًا لقانون استثمار جديد، وشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإعادة هيكلة تعتمد على تهميش وزارة الدفاع لمصلحة وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي لتكون أكثر ارتباطًا بالواقع المحلي.

من هنا، يبدو مسار سوريا بعد عام من سقوط الأسد أفضل مِمّا توقعه العديد من الدبلوماسيين والخبراء الأميركيين، ولكنه لا يزال محفوفًا بالمخاطر. أوضح ليستر أنه بالنظر إلى العدد الهائل من الجماعات المسلحة والجهات الداعمة الإقليمية، توقع المراقبون قدرًا أكبر بكثير من عدم الاستقرار مِمّا حدث فعليًا، حيث تم احتواء التهديدات المبكرة، مثل التمرّد المناهض للحكومة في الساحل، المدعوم جزئيًا من جهات مرتبطة بإيران و”حزب الله”.

وتصوّر القيادة المركزية الأميركية الآن علاقتها مع دمشق كبداية ركيزة لهذا الاستقرار الهش. فقد أوضح الأدميرال براد كوبر، أمام جمهور في واشنطن، أن “خطوط عمل القيادة المركزية الأميركية في سوريا تتلخص في ثلاثة محاور: مواصلة الملاحقة الحثيثة لتنظيم “داعش”، ودعم التكامل بين “قسد” والحكومة السورية، وتعزيز التعاون العسكري المباشر مع القوات السورية”. وأشار إلى أكثر من 20 عملية مشتركة نفذت في شهر واحد، وانضمام سوريا كعضو رقم 90 في التحالف الدولي لهزيمة “داعش”، مشددًا على أن هذا التعاون ساهم بالفعل في ضبط أسلحة وتعطيل عمليات نقلها إلى الشبكات الجهادية و”حزب الله”، ما يُعدّ من أوضح المؤشرات إلى ذلك.

واشنطن بين خصوم الأمس وحلفاء الغد

في هذا الإطار، أشار ليستر إلى أن “الولايات المتحدة والتحالف الدولي منقسمان، ويعملان في جبهتين مختلفتين في سوريا. وحاليًا لدى واشنطن علاقة متطورة بسرعة مع الحكومة السورية في ما يتعلّق بمواجهة “داعش” وبقايا الشبكات الإيرانية”. ويُعدّ دمج “قسد”، شريك واشنطن القديم في الحرب ضدّ “داعش”، في القوات المسلحة السورية، أحد الاختبارات الأساسية التي تواجه دمشق. وتعتبر هذه العملية حساسة رغم استمرار المفاوضات. وقال قائد القيادة المركزية الأميركية في اجتماع سياسي عُقد في واشنطن إن “اندماج “قسد” مع القوات الحكومية السورية يمهد الطريق لبيئة أمنية أكثر استقرارًا وقدرة على استكشاف المستقبل”، مؤكدًا أن “كلا الجانبين ملتزمان بهذه العملية، وتجري مناقشات جادة بدعمنا ووساطتنا”.

في غضون ذلك، لا يزال التوتر القائم في محافظة السويداء يتفاقم بسبب التطلّعات إلى الحكم الذاتي، وأحيانًا بسبب الدعم الإسرائيلي، بحسب ما أشار إليه الجنرال الأميركي المتقاعد جوزف فوتيل، في حين حذر ليستر من أنه “لا بدّ من الحوار لإعادة بناء الثقة بين الجانبين”، مؤكدًا هشاشة مشروع الوحدة الوطنية السورية.

مع تحوّل السياسة الأميركية، باتت الرسالة واضحة: “إن مستقبل سوريا ليس في يد أميركا”، يقول المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير روبرت فورد، ويضيف: “مستقبل الشرق الأوسط في أيدي شعوبه”. ومع ذلك، تُعد الشراكة العملياتية بين واشنطن ودمشق ركيزة للاستقرار. غير أن مساعدة وزير الخارجية الأميركي السابقة باربرا ليف، التي قادت أول وفد دبلوماسي أميركي رفيع المستوى إلى دمشق في كانون الأول 2024، حذرت من أن “استراتيجية الأمن القومي الأميركية تُعدّ مؤشرًا إلى تراجع الولايات المتحدة… لكن سوريا حالة شاذة نوعًا ما في هذا الصدد”، حيث أن “انخراط واشنطن مدفوع بمصالح عملية أكثر من طموحات كبرى”.

فالسياسة الخارجية الأميركية تجاه سوريا تعتبر عمليةً دقيقةً للغاية. وتُقرّ واشنطن بالدعم السعودي والقطري والتركي. أما بالنسبة إلى إيران، فالعلاقة متوترة مع سوريا، يقول ليستر، إذ “من وجهة نظر دمشق، لا تزال طهران تُمثل تحديًا أمنيًا أكثر منها فرصة دبلوماسية”. أما التحوّل الأبرز الذي تحاول واشنطن السير فيه على خط مشدود، هو عملية التطبيع مع إسرائيل، الأمر الذي يعتبر تغييرًا جذريًا عن عهد الأسد. يقول ليستر إن السوريين يؤكدون استعدادهم للعودة إلى حدود عام 1974، وزيادة جهودهم لمنع وصول الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى “حزب الله”… ومع ذلك، لا تزال إسرائيل مشككة.

باختصار، يُجمع عدد من المسؤولين الأميركيين السابقين من دبلوماسيين وعسكريين، على أن سوريا عند مفترق طرق حاسم. فحقبة ما بعد الأسد الهشة تحمل في طياتها إمكانية التحول الجذري لجهة ترسيخ الأمن الداخلي، وتطبيع العلاقات الخارجية الحيوية، وإطلاق العنان لتحفيز إعادة الإعمار وتشجيع القطاع الخاص. ويؤكد هذا الموقف الأميركي – الذي يرتكز على إلغاء “قانون قيصر”، وإعادة تقييم التعاون مع “قسد” بقيادة الكرد، وربط تخفيف العقوبات بمعايير محدّدة – على استنتاج جوهري: أن استمرار التدخل الدبلوماسي والاقتصادي والأمني الأميركي يظلّ حاسمًا لمسار سوريا المستقبلي. كما يشير إلى أن واشنطن تراقب قدرة دمشق على تحقيق الوحدة الوطنية، وتعزيز النمو الاقتصادي، والتي تعتمد إلى حدّ كبير على إعادة دمج المجتمع السوري، أقليات وأكثرية.

إلغاء “قيصر” اختبار مصيري لسوريا .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print