ثمة سيناريو يتم تداوله يقضي بنزع سلاح الحزب بالكامل من كل الجنوب، وبعد ذلك، يتم نزع أنواع السلاح التي تقلق إسرائيل من شمال الأولي، ويبقى السلاح الخفيف والمتوسط وبعض الثقيل، موضباً في مخازن “الحزب”، على أن تتولى الإشراف على هذه المخازن هيئة يقبل بها “الحزب”، وتقودها الدولة اللبنانية. ولكن هل يجب أن توافق الدولة والقوى اللبنانية الأخرى على طرح من هذا النوع، باعتباره أسهل خيار متاح؟
هناك مصطلح “خبيث” بدأ تداوله قبل أسابيع، بشكلٍ مفاجئ، وكأنّه ينطوي على “كلمة سر” معيّنة: “احتواء السّلاح” في شمال الليطاني. في العودة إلى الأرشيف، يمكن اكتشاف الجهة التي بادرت أولاً إلى رمي هذا المصطلح في السوق. ولكن، في أي حال، تورط فيه معظم أركان السلطة، من سياسيين وعسكريين، في أشكال ودرجات مختلفة، فبات حالياً قيد النقاش، كبديل محتمل من خطاب القسم والبيان الوزاري وقرار 27 تشرين الثاني 2024 لوقف النار والقرارين الدوليين 1559 و 1701.
حقيقة ما يجري هي الآتية: أركان الحكم يخشون الدخول في مواجهة خشنة مع “حزب الله” حول سلاحه. يعتقدون أنّ قرار السلاح أكبر من الحسابات الداخلية، وأنّ نزعه يتم بقرارات كبرى إقليمية ودولية. ولذلك، فليسلك هذا السلاح مساره الحتمي، ولا نفتح في الوقت الضائع مواجهات أهلية لا طائل منها.
الرئيس نبيه بري تبرع بإيجاد مخرج مناسب لهذه المسألة، بموافقة أركان الدولة جميعاً. حاول بري إقناع إيران بالإفراج قليلاً عن “حزب الله”، ليتمكن من تسهيل الأمور وإنقاذ مصير الطائفة المهدّد. لم توافق طهران ولم تعارض، بل اعتمدت المواربة وكسب الوقت والرهان على خرق الجدار السوري من خلال مقايضة مع تركيا: يمنح الإيرانيون أنقره وأحمد الشرع ضمانات بعدم المس باستقرار سوريا وخصوصاً في منطقة الساحل، وفي المقابل يتاح لـ”الحزب” أن يستعيد خط التسليح والتمويل الذي انقطع في سوريا برحيل بشار الأسد. وحتى الآن، لم تجرؤ تركيا والشرع على القبول بهذه الصفقة لأسباب كثيرة، وليس واضحاً إذا كانت قد غضت أو ستغض النظر عن بعض “التمريرات” المالية المحدودة، مقابل مكاسب معينة في داخل سوريا.
إنها في الواقع لعبة تقطيع للوقت في شمال الليطاني، لكن جنوبَه شأن آخر. هناك لا يمكن إطلاقاً التهرب من الاستحقاق الذي تصر عليه إسرائيل، والذي التزمت الدولة بإنجازه قبل رأس السنة. ويشعر “حزب الله” بأن حظوظ عودته إلى العمل العسكري في جنوب الليطاني باتت تحت الصفر، الآن أو بعد سنة أو عشر سنوات أو عشرين. فإسرائيل لن تفوّت الفرصة السانحة للسيطرة تماماً لا حتى الليطاني فحسب، بل حتى الأولي، أي إنها لن تسمح بأي ثغرة، بضمانة قوات متعددة الجنسيات، على امتداد محافظتي النبطية ولبنان الجنوبي. وهذا يعني أنّ الهامش الذي يمكن أن يطمح “الحزب” إلى استخدامه سيبدأ من محافظة جبل لبنان، قضاء الشوف.
التسريبات الإسرائيلية الأخيرة تتحدّث عن هذه المسألة، وجاء في بعضها ما معناه: إنّ أي محاولة يقوم بها “الحزب” لإطلاق صاروخ على إسرائيل، لن تتم أبداً من مناطق حدودية، لأنّ العمق الأمني الذي ستحدّده إسرائيل سيمتد إلى الداخل اللبناني. وهذا ما يجعل أي محاولة من هذا النوع مستحيلة تقريباً لأسباب كثيرة لوجستية وسياسية.
ولكن، على رغم هذه العقبات، لم ييأس “الحزب” من محاولات استعادة قوته المسلحة، على الأقل في الحضن الداخلي اللبناني إذا كان ذلك متعذراً في الجنوب. ولذلك، هو والإيرانيون يواصلون كسب الوقت، لعل شيئاً يتغير في السياسة ويفتح لهم نافذة يتنفسون منها مجدداً في لبنان. وهاجسهم الأساسي اليوم هو عدم رفع الراية البيضاء في الداخل، لأنهم إذا فعلوا ذلك فسيكونون قد اعترفوا بالخسارة وكرسوها- لا في مقابل إسرائيل لأن خسارتهم معها واضحة ومؤكدة- بل في مقابل القوى الأخرى في الداخل اللبناني. فما يهم “الحزب” هو أن يبقى صاحب “الفيتو” الأول على قرارات الدولة، بعدما كان قبل الحرب يحتكر قرارها بشكل كامل وحصري.
ويدرك “الحزب” جيداً أنه، لكي يتمكن من تحقيق هذا الهدف، يجب أن يزنر سلاحه في شمال الليطاني بدائرة من الألغام لا يخرقها أحد، بمن في ذلك الجيش اللبناني الذي أتاحت له التفاهمات وضغوط إسرائيل والولايات المتحدة فرصة نزع السلاح في جنوب النهر. وثمة سيناريو يتم تداوله في بعض الأوساط، ويبدو أن هناك جهات تحاول تسويقه، يقضي بنزع سلاح الحزب بالكامل من كل الجنوب، وبعد ذلك، يتم نزع أنواع السلاح التي تقلق إسرائيل من شمال الأولي، وتبقى أنواع السلاح الذي لا يقلقها، أي السلاح الخفيف والمتوسط وبعض الثقيل، موضباً في مخازن “الحزب”، على أن تتولى الإشراف على هذه المخازن هيئة يقبل بها “الحزب”، وتقودها الدولة اللبنانية. وكان توم باراك أعلن قبل أيام أن “نزع سلاح “الحزب” ليس ضرورياً. فالمهم هو منعه من استخدامه”. وهذا كلام أميركي يُسمع للمرة الأولى، سواء كان يمثل رأي الإدارة أو هو مجرد رأي شخصي لقائله.
ولكن، في أي حال، هل يجب أن توافق الدولة والقوى اللبنانية الأخرى على طرح من هذا النوع، باعتباره أسهل خيار متاح؟
للجواب، يقتضي طرح سؤال آخر أكثر عمقاً: ما وظيفة السلاح في شمال الليطاني أو الأولي، إذا كان السلاح قد زال تماماً من كل الجنوب، وإذا اقتصر شمالاً على الأنواع التي لا تقلق إسرائيل إطلاقاً؟ وما جدوى الحفاظ عليه في المخازن؟
هذا السلاح الذي لن يعود مقلقاً لإسرائيل سيتضاعف القلق الذي يثيره في الداخل اللبناني، لأن الغاية منه بعد اليوم باتت واضحة ومحصورة بأمر واحد هو الحفاظ على تفوّق “الحزب” وامتيازه على الآخرين في الداخل بقوته المسلحة، أياً كانت أنواعها وأحجامها. وهذا الهدف سيشكل استفزازاً فاقعاً للفئات الأخرى كلها في لبنان. وهذا الاستفزاز عواقبه وخيمة جداً على البلد. ولا داعي للشرح والتحليل هنا لأن الجميع يعرف العواقب بدقة، بمن فيهم “الحزب” نفسه. ولذلك، على الدولة اللبنانية ألا تقع في هذا الفخ، وألا تدفع الفئات اللبنانية كلها إلى مواجهة لا أحد يعرف إلى أين ستقودها وتقود البلد.
ما وظيفة السلاح في شمال الليطاني؟ .