لبنان بعد سقوط الأسد: عزل “الحزب” وإعادة رسم معادلات الداخل

1134170-1520326068

ملفات ثقيلة مثل المفقودين واللاجئين وترسيم الحدود لا تزال تعرقل التعاون الكامل بين البلدين

العام الأول لسقوط نظام الأسد في سوريا كان كفيلاً بإعادة خلط الأوراق في لبنان، إذ برزت تحولات عميقة مست جوانب الأمن والسياسة والاقتصاد، فأدى انقطاع خطوط الإمداد التي اعتمد عليها “حزب الله” لعقود إلى تراجع نفوذه اللوجستي، فيما بدأت علاقة جديدة بين البلدين تتقدم ببطء نحو منطق “دولة لدولة”، على رغم الملفات العالقة مثل المفقودين واللاجئين وترسيم الحدود.

عام واحد فقط كان كافياً ليكشف عن حجم الزلزال السياسي الذي أحدثه سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. فلبنان، الدولة الأكثر التصاقاً بسوريا جغرافياً وسياسياً وأمنياً، وجد نفسه فجأة أمام مشهد إقليمي جديد يبدل توازناته ويفتح جراحه القديمة ويطرح أسئلة كبرى حول مستقبله وحدوده وسلاحه وعلاقاته. فالانهيار الذي ضرب “الجسر اللبناني – الإيراني” عبر سوريا لعقود، أصاب صلب المعادلة اللبنانية، إذ سقطت معه مرحلة كاملة من الهيمنة والتهريب والتدخل الأمني والحروب بالوكالة التي دفعت البلاد أثمانها منذ السبعينيات.

اليوم، وبعد عام على هذا التحول التاريخي، تبدو بيروت وكأنها تقف أمام فرصة نادرة لإعادة رسم دورها وحدودها، لكنها في الوقت نفسه تواجه ارتدادات مرحلة لم تحسم بعد، فتختلط الفرص بالأخطار، ويعود سؤال الدولة في لبنان للواجهة بقوة غير مسبوقة.

سقط نظام الأسد، لكن آثار سقوطه لم تكتمل بعد. لبنان يعيش اليوم بين مرحلتين، مرحلة تهاوى فيها النفوذ الأمني والسياسي السوري، ومرحلة لم يولد فيها بعد التوازن الجديد الذي يضمن الاستقرار ويعيد بناء الدولة. والجسر الذي ربط لبنان بإيران لعقود انهار والحدود تغيرت والحزب الذي كان يستند إلى دمشق فقد جزءاً من قوته، لكن لبنان نفسه لا يزال هشاً أمام الفوضى الاقتصادية والسلاح المنفلت والحدود الرخوة ونظامه السياسي العاجز.

سقوط “الجسر”

تجمع أوساط سياسية على أن الانهيار المفاجئ للنظام السوري مثل الضربة الأقسى لمحور طهران في المشرق، إذ انقطع الطريق الحيوي الذي شكل عبر عقود شرياناً لوجستياً وعسكرياً ومالياً يصل إيران بـ”حزب الله”، وهذا الممر الذي كان يمتد من طهران إلى بغداد وصولاً إلى القصير والهرمل كان بمثابة العمود الفقري لتسليح الحزب وتمويله وتأمين الخبراء له. ومع سقوط النظام، تراجعت قدرة إيران على ضخ الموارد وتقلصت قدرة “حزب الله” على الحركة عبر الحدود، في حين باتت عمليات التهريب الصغيرة والمخاطرة تحلان مكان الممرات الواسعة التي كانت تدار بغطاء أمني سوري.

وترى هذه الأوساط أن هذا التحول انعكس مباشرة على الداخل اللبناني، حيث وجد الحزب نفسه أمام واقع سياسي أكثر تعقيداً يفرض عليه خطاباً أكثر تواضعاً وتعاملاً أكثر واقعية مع مؤسسات الدولة، بعدما فقد الغطاء الاستراتيجي الذي كان يمنحه فائض قوة داخل النظام اللبناني. وظهر ذلك في مقاربته لقرارات حكومية حساسة، وفي تراجعه عن سياسة الصدام المفتوح، وفي بقائه ضمن الحكومة على رغم اعتراضاته على بعض الملفات. بالتوازي، أعادت العواصم العربية والغربية فتح قنواتها مع بيروت من دون المرور بدمشق، فيما بدأت إسرائيل تعيد تقييم موقع الحزب بعد سقوط الركيزة التي كانت تزوده بعمقه اللوجستي والجغرافي.

حدود مضطربة

لم تعرف الحدود اللبنانية – السورية يوماً معنى الاستقرار، لكن العام الذي تلا سقوط الأسد حمل اضطراباً غير مسبوق، إذ أدى تغير القوى المسيطرة على الجانب السوري إلى فراغ واسع جعل الحدود الممتدة من الجرود إلى الوديان منطقة يصعب ضبطها بالكامل. وتراجعت الشبكات الكبيرة التي كانت تدير التهريب المنظم لمصلحة أجهزة النظام السابق، وحلت مكانها مجموعات صغيرة متفرقة تفتقر إلى التنظيم، مما جعل النشاط الحدودي أكثر فوضوية وأقل تأثيراً مما كان عليه سابقاً.

وتشير التقديرات الأمنية إلى أن الممرات غير الشرعية بقيت مستخدمة، لكن زخمها انخفض بصورة حادة، خصوصاً في عمليات التهريب التي كانت تنقل الأسلحة والذخائر إلى داخل لبنان. وفي ملف مخدرات الكبتاغون، مثل تفكيك المصانع التي عملت سابقاً تحت حماية النظام السوري نقطة تحول، إذ أدى غياب المظلة الأمنية إلى الكشف عن شبكات تهريب كبرى وسقوط مطلوبين كثيراً ما احتموا داخل الأراضي السورية خلال العقد الماضي.

أما اقتصاد الظل الذي عاش عليه سكان المناطق الحدودية لعقود، فتلقى ضربة موجعة، إذ إن الممرات التي كانت تستخدم لتهريب الوقود والقمح والدولارات والأسلحة لم تعد تعمل بوتيرتها السابقة، مما انعكس مباشرة على مناطق لبنانية مثل الهرمل ووادي خالد وعرسال التي كثيراً ما اعتمدت على هذا الاقتصاد نتيجة الإهمال المزمن وغياب الدولة. وعلى رغم الجهود التي بذلها الجيش اللبناني لضبط الحدود، بقي حجم الجغرافيا أقوى من قدرة الدولة على السيطرة الكاملة.

ذاكرة الجراح والتحرر المتأخر

من بين المدن اللبنانية التي تأثرت بالسقوط، تبقى طرابلس الأكثر عمقاً في جراحها، فهذه المدينة التي واجهت خلال الثمانينيات حصاراً وقصفاً عنيفاً من النظام السوري، وعاشت بعدها عقوداً تحت رقابة أمنية ثقيلة وهيمنة سياسية مفروضة، وجدت نفسها في العقد الماضي مجدداً ساحة لصراع أراده النظام السوري امتداداً لثورة عام 2011. فالجولات الدامية بين باب التبانة وجبل محسن لم تكُن سوى محاولة من أجهزة دمشق لخنق التضامن الشعبي مع الثورة السورية ولإعادة فرض “حضور” النظام داخل لبنان.

ومع سقوط الأسد، أعادت طرابلس فتح جراحها المؤلمة. من ذاكرة القصف والحصار أيام حافظ الأسد، إلى خطوط التماس التي فجرها بشار عبر أدواته المحلية، وصولاً إلى قضية ميشال سماحة الذي نقل المتفجرات من دمشق إلى الشمال لإشعال فتنة، وتفجيري مسجدي السلام والتقوى اللذين أثبت القضاء ارتباط منفذيهما بأجهزة سورية رسمية. كل ذلك جعل طرابلس تشعر بأن السقوط ليس مجرد حدث سياسي، بل تحرر رمزي من تاريخ طويل من العقاب والاستهداف.

وترى أوساط سياسية أن هذه المدينة التي دفعت ثمناً مضاعفاً لأنها بقيت صادقة في رفضها للاستبداد، تنظر اليوم إلى سوريا الجديدة بعيون مختلفة، فهي مدينة تعرف أن التحول السوري لا يمحو الماضي، لكنه يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تعيد الاعتبار لأدوارها السياسية والاجتماعية ولحقها في الازدهار والتنمية بعد عقود من التهميش. ومع ذلك، تبقى الأسئلة الكبيرة حول مصير المفقودين اللبنانيين داخل السجون السورية تؤرق عائلات وأحياء كاملة تنتظر الحقيقة منذ أربعة عقود.

ملفات ثقيلة

مع صعود القيادة السورية الجديدة، بدأت مرحلة لا تشبه كل ما سبق في العلاقة بين بيروت ودمشق، فالعلاقة التي كانت تقوم على وصاية وغلبة أمنية تحولت إلى علاقة بين دولتين تحاول كل منهما تثبيت سيادتها ومصالحها، وبدأت بوادر هذا التحول مع تشكيل لجان مشتركة لترسيم الحدود، وفرض التأشيرات للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الثنائية، وفتح قنوات تعاون قضائي وأمني بعيداً من مركزية المجلس الأعلى اللبناني – السوري الذي ألغي من الجانب السوري وبقي معلقاً من الجانب اللبناني.

وترى أوساط سياسية أن هذه المرحلة تحمل إمكانات كبيرة للبنان، خصوصاً أن دمشق الجديدة تحاول تنظيم ملف الحدود واللاجئين والاتفاقات الاقتصادية بطريقة أكثر شفافية، غير أن الملفات الأكثر حساسية تبقى عالقة مثل ملف المفقودين والمخفيين قسراً في البلدين الذي يتطلب آليات تقنية متطورة ودعماً دولياً، نظراً إلى ضخامة عدد الضحايا ووجود مقابر جماعية تحتاج إلى أساليب علمية للكشف عنها.

وعلى رغم عودة نحو 400 ألف من اللاجئين السوريين طوعاً من لبنان، يبقى الملف مرشحاً للتعقيد، خصوصاً مع انقسام الداخل اللبناني حول آليات العودة وشروطها. كذلك لا تزال دمشق متأخرة في تعيين سفير لها لدى بيروت، مما يعكس هشاشة المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا. ومع ذلك، ترى الأوساط أن اللحظة الحالية قد تكون فرصة تاريخية لإعادة بناء العلاقة على أساس المصالح المشتركة واحترام السيادة المتبادلة.

المشهد الاستراتيجي

في السياق، رأى الكاتب السياسي يوسف دياب أن سقوط نظام بشار الأسد قلب المشهد الاستراتيجي في لبنان رأساً على عقب لأن النظام السوري كان يمثل العمود الذي ارتكزت عليه منظومة النفوذ الإيراني طوال العقدين الماضيين، ويشير إلى أن لبنان كان “الساحة الأكثر التصاقاً بسوريا”، وأن التحولات في دمشق انعكست فوراً على البنية الأمنية والسياسية التي اعتاد عليها اللبنانيون منذ التسعينيات.

ويعتقد دياب بأن أكبر التحولات برزت على مستوى السلاح والحدود، فبعد سقوط النظام الذي كان يشكل مظلة عبور لـ”حزب الله”، أصبح الحزب أمام واقع جديد عنوانه فقدان خطوط الإمداد التقليدية. وهذا الواقع، بحسب دياب، “لا يعني انتهاء قدرة الحزب العسكرية، لكنه يضعفها ويعيدها لحجمها الطبيعي داخل الحدود اللبنانية”، خصوصاً في ظل تزايد الضبط الحدودي وتراجع سيطرة الشبكات المرتبطة بالفرقة الرابعة السورية التي كانت تسهل نقل السلاح والبضائع.

أما على المستوى السياسي، فيرى أن سقوط الأسد منح لبنان “فرصة لاستعادة جزء من سيادته”، ويلفت إلى أن الحوار الجاري اليوم بين بيروت ودمشق حول ترسيم الحدود ومكافحة التهريب وتبادل الموقوفين وضبط المعابر كان مستحيلاً خلال عهد النظام السابق. فدمشق الجديدة، بحسبه، “لم تعُد تتعامل مع لبنان من موقع التفوق والوصاية، بل من موقع الجار الذي يحتاج إلى علاقات مستقرة”.

غطاء لوجستي

ويشير الكاتب السياسي بشارة شربل إلى أن لبنان “يعيش حال ارتياح” نتيجة التحول في التوازنات الإقليمية بعد انهيار “محور النفوذ الإيراني” في سوريا، موضحاً أن الحكومة اللبنانية الحالية تقدم الملامح الأولى للمسار الجديد، لكن الطريق إلى تعاون فعلي مع دمشق “لا يزال طويلاً” بسبب ما وصفه بـ”حذر سوري واضح” على رغم المناخ الإيجابي الأمني.

وركز على ملف الحدود باعتباره “القضية الأكثر تعقيداً”، موضحاً أن هناك أكثر من 100 معبر غير شرعي بين البلدين وأن ضبط هذه المعابر بعد عهد التهريب المنظم الذي كان تحت حماية النظام السوري يتطلب “تعاوناً استثنائياً” بين لبنان وسوريا وأمناً حدودياً متكاملاً، وشدد على أن ملف ترسيم الحدود، بما فيه مزارع شبعا والحدود البحرية، يبقى من ملفات الانقسام الحاد لأن أولويات بيروت تختلف عن أولويات دمشق.

وعلى الصعيد الداخلي، رأى شربل أن سقوط الأسد أقصى حظوظ بعض حلفاء المحور السوري في الوصول إلى مواقع سياسية عليا، وأتاح فرصة للأحزاب والقوى السيادية لتصبح لاعباً أكبر في المعادلة اللبنانية، وأضاف أن “حزب الله” خسر “غطاءً لوجستياً واستراتيجياً”، وأن هذا الواقع ربما يدفعه إلى إعادة حساباته على مستوى التموضع والمشاركة السياسية.

الخريطة السياسية

من ناحيته رأى الكاتب السياسي محمد الغول أن أبرز المستفيدين من سقوط الأسد هم القوى اللبنانية المعارضة لسوريا التي باتت “تحظى بمجال أوسع” لإعادة تنظيم الخريطة السياسية اللبنانية بعيداً من النفوذ السوري-الإيراني، وأشار إلى أن قوى إقليمية قد تسعى إلى تعزيز نفوذها في لبنان خلال المرحلة المقبلة.

وأضاف أن سقوط دمشق كحليف استراتيجي لإيران جعل حلفاءها في لبنان بمن فيهم “حزب الله” أمام معضلة إعادة التموضع، محذراً من أن الفراغ الأمني والتهريب على الحدود قد يدفعان إلى تصاعد نشاط “جماعات مسلحة على الحدود” إذا لم تستكمل عملية ضبط المعابر والترسيم.

لبنان بعد سقوط الأسد: عزل “الحزب” وإعادة رسم معادلات الداخل .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print