تشكِّل وزارة الاتصالات مركزاً لجذب الأضواء، لما فيها من ملفّات تدور حولها علامات استفهام. فالكثير من الملفّات سلكت طريقها نحو الأجهزة الرقابية، ووصلت إلى القضاء، واحتوت على هدر بمليارات الدولارات. وفي المقابل، ملفّات أخرى “ضلَّت” طريقها، وبعضها نام في الأدراج. ومن حقبة وزارية إلى أخرى، تتكدّس الملفّات وتتزايد خسائر الدولة. على أنّ هذا المسار يستدعي تحريك الجمود للوصول إلى الخواتيم الصحيحة واستعادة حقوق الدولة. ومن تلك المحاولات، على المستوى الرسمي، استعراض عضو لجنة الإعلام والاتصالات ياسين ياسين، جملة من الملفّات التي تحتاج إلى ملاحقة تشريعية وقضائية، ومنها ملفّ الاتصالات الوهمية التي تسجِّل أكلافاً إضافية على الوزارة من دون وجه حق.
تحت المجهر
لا زالت وزارة الاتصالات تحت المجهر. فديوان المحاسبة ذكّرَ المواطنين، في تقريره الصادر بتاريخ 20/11/2025 ، بأنّ مرحلة جديدة يفترض الانتقال إليها بعد القطع مع المراحل السابقة، نظراً لفداحة ما تمّ ارتكابه في هذا القطاع الذي يدرّ أموالاً ضخمة للخزينة، ويهدر أخرى. ومن الملفّات التي تتضمّن هدراً للمال العام، ولا تزال عالقة في القضاء، قضية العقد بين الوزارة وشركة (WPC) World Point Communications التي تمارس تجارة دقائق مكالمات دولية، وهي واحدة من شركات كثيرة تتعاقد معها الوزارة لتسيير عملية تحويل الاتصالات إلى دول العالم. وفي مسار هذا التعاقد، تبيَّنَ أنّ الشركة تراكم أرباحاً غير مشروعة نتيجة إجراء سلسلة اتصالات وهمية مع أستراليا. وأفضى هذا المسار إلى “اختلاس مبلغ مليون و600 ألف دولار”، وفق المحامي واصف الحركة، الذي اعتبر أنّ هناك ارتباطاً بين هذه الشركة ووزير الاتصالات شارل الحاج. وإثر ذلك، تقدّم بإخبار إلى النيابة العامة المالية ضد الحاج. وأشار الحركة في حديث إلى”المدن” إلى أنّ “التحقيقات مستمرة في ملفّين، الأوّل حول تضارب المصالح والثاني حول الاختلاس”. وأضاف أنّ النيابة العامة يفترض بها “تحديد المسؤوليات وتحويل الملفّ عند قاضي التحقيق”.
بدوره، اعتبر ياسين في حديث إلى”المدن”، أنّ فتح هذه الملفّات، ومن ضمنها ملف العقد مع WPC يقع في سياق “التنبيه من أجل تغيير المسار في الوزارة”. ورأى ياسين أنّ “مسار الوزارة خاطئ، وهناك ضرب لقوانين عديدة وللسيادة الرقمية، خصوصاً في ملفّ مثل ملفّ “ستارلينك”. وذكّر ياسين بأنّ هناك ملفّات أخرى يجب تسليط الضوء عليها، وهي ملفّ “إنشاء شركة “ليبان تليكوم” Liban Telecom التي مضى على قانون إنشائها أكثر من 24 عاماً، في وقت يشهد فيه قطاع الاتصالات تطوراً تقنياً متسارعاً يجعل من غير المنطقي اعتماد تشريعات قديمة لم تعد تواكب السوق وحاجات المستهلك وحاجات الدولة”.
اتصالات إلى استراليا
مشكلة العقد مع WPC هو نتائجه التي تهدر أموالاً عامة. وفي التفاصيل، فإنّ الوزراة رصدت وجود كثافة اتصالات كبيرة على استراليا، تسلك مسار الاتصالات الذي يفترض بشركة WPC تحويله. وللتوضيح، فإنّ شخصاً من لبنان، إذا أراد الاتصال بشخص في استراليا، فإنّ هذه العملية لا تسير تقنياً بشكل مباشر، بل تمرّ بمرحلة تحويل الاتصال عبر شركات تتعاقد معها الوزارة، ومنها شركة WPC التي تقوم بـ”توجيه حركة الاتصالات إلى الوجهات المتفق عليها”، وفق ما ينصّ عليه العقد مع الشركة. وبموجب ما رصدته الوزارة، فإنّ عدداً هائلاً من المكالمات انطلقت من لبنان إلى استراليا، وبمدة زمنية كبيرة جداً تمتد لساعات يومياً وبشكل متقطّع ومتكرّر.
مصادر في الوزارة أوضحت لـ”المدن”، أنّ “الوزارة والشركة مسؤولتان عن مراقبة حركة الاتصالات تلك. وعندما يتبيَّن وجود خلل ما، يتم التواصل بين الطرفين لإيجاد حلّ”. وفي القضية الراهنة، لفتت المصادر النظر إلى أنّ “الوزارة تواصلت مع WPC التي أقرّت بوجود خلل في حركة الاتصالات، وأعادت للوزارة مبلغ 390 ألف دولار، من كلفة تلك الاتصالات”، هذا بالنسبة للجزء المتعلّق بالأموال. أمّا بالنسبة إلى تضارب المصالح، فأشارت المصادر إلى أنّ “توقيع العقود مع الشركات، يتم عبر ممثّليها القانونيين في لبنان. وفي حالة WPC تم التوقيع مع ممثّل الشركة ناصيف بشارة. ولا تعرف الوزارة ما إذا كان هناك شركاء آخرون في الشركة، من ضمنهم الوزير الحالي شارل الحاج، إلاّ إذا طلب القضاء كشفاً بأسماء مؤسسي الشركة، والملف اليوم لدى القضاء”.
في المقابل، كشفت مصادر متابعة للملف، أنّ المسألة أبعد ممّا يتبيَّن. وشرحت المصادر في حديث إلى لمدن”، أنّ جوهر المشكلة يكمن في “وجود تواتر كثيف لحركة اتصالات تأتي من أرقام متسلسلة ولفترات زمنية تكاد تكون متشابهة في عدد ثواني المكالمات. وهذا يؤّشر إلى وجود مشغِّل الكتروني يتولّى إجراء مكالمات وهمية بهدف تسجيل أكلاف كبيرة. علماً أنّ الأكلاف يتم تقاسمها بعد إجراء مقاصّة بين الوزارة والشركة، تقوم بموجبها الشركة بدفع مبلغ 2 سنت للوزارة عن كل دقيقة اتصال، فيما الوزارة تدفع للشركة 2 دولار عن كل دقيقة. وبعد إجراء المقاصة، تكسب الشركة فارق المبلغ لحسابها، وهو ما راكم مبالغ كبيرة خسرتها الدولة”.
وقالت المصادر إنّ “وزارة الاتصالات والشركات التي تعمل في هذا المجال، لديها نظام يكشف الاتصالات الوهمية التي تتم على الشبكة، ويتم إصدار تقرير يومي بذلك، ما ينفي أي ذريعة بعدم الانتباه لتلك الاتصالات، أو الانتباه إليها في مرحلة متأخّرة. أمّا إذا سلّمنا بأنّ الخطأ مرّ سهواً، فقد يمرّ لأسبوع أو شهر، وليس لسنوات”.
مزيج من الهدر والاختلاس وتضارب المصالح موجود أمام القضاء، الأمر الذي يفترض وصول الملفّ إلى نهايته الصحيحة. لكنّ ما وراء الستارة يختلف عمّا يظهر أمامها، وعليه، وبحسب المصادر “على القضاء تبيان التشابك بين شركة WPC وغيرها من الشركات، مع وزير الاتصالات”. وكشف خيوط الترابط بين هذه الشركة والوزير، يحيل إلى تساؤلات حول علاقة هذه الشركة بشركات أخرى، ومنها شركة Mada Communication، والتي تتّصل بدورها بملفّ ستارلينك الذي طرح ياسين حوله تساؤلات تتعلّق بارتباط الشركة وغيرها من الشركات بوزير الاتصالات.
الشبهات تلاحق وزارة الاتصالات: مشاريع ومكالمات وهمية .