سلام واشنطن-موسكو: صفقات سرّية وتقاسم نفوذ

image-1765194675.jpg

كل ما يُعلن أنه مسار سلام، ليس أكثر من ترتيبات ما بعد الحرب تُطبخ بعيداً عن أوروبا. وبعد كل جولة تفاوض بين موسكو وواشنطن تحت عنوان: “إنهاء الحرب في أوكرانيا”، يكتشف الأوروبيون أنهم الطرف الوحيد الذي لا مكان له في غرفة القرار. ليس لأنهم خارج الحرب، بل لأنهم خارج صفقة اقتسام ما بعد الحرب: الثروات، الممرات البحرية، النفوذ القطبي وملف الطاقة الذي يُعاد هندسته بما يتجاوز بروكسل تماماً.

والواقع الجديد صار أكثر وضوحاً مع إعلان واشنطن أنها ستترك أوروبا لتتحمّل الجزء الأكبر من مسؤوليات الدفاع في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بحلول عام 2027، وهو تحوّل يضع القارة أمام مسؤولية غير مسبوقة، ويجعل أي اجتماع “سلام” بين موسكو وواشنطن خارج قدرتها على التأثير.

غرينلاند والثروات القطبية: قلب المساومة

تفاصيل تسرّبت عن اجتماعات سرية جمعت رجال أعمال روس مقرّبين من الرئيس فلاديمير بوتين، أبرزهم غينادي تيمتشينكو ويوري كوفالتشوك والإخوة روتنبرغ، مع رجال أعمال أميركيين محسوبين على دونالد ترامب. النقاشات تناولت اقتسام حقوق استخراج المعادن النادرة والنفط في شرق أوكرانيا ومحيط غرينلاند، إضافة إلى إعادة إحياء خطوط الغاز مثل “نورد ستريم”. بالتزامن، ترصد الاستخبارات الأوروبية تحركات متزايدة للسفن الروسية المحمّلة بالمعادن والنفط قرب غرينلاند، ما عمّق القلق الأوروبي حول السيطرة على الثروات القطبية.

هكذا يتأكد للأوروبيين أن اجتماعات موسكو-واشنطن التي تُقدَّم كمسار سلام، ليست سوى آلية لإعادة توزيع الكعكة الاقتصادية على حسابهم، مع إبقائهم في مقعد المتفرّج. وما زاد حساسية اللحظة، أن الأوروبيين يعرفون جيداً أن لقاء بوتين الأخير مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ليس اجتماعاً لإنجاز وقف إطلاق نار، بل منصة تنسيق لإعادة رسم النفوذ، مع إبقاء أوروبا في الهامش. لهذا تحديداً، لا يتردد الاتحاد الأوروبي في رفع سقف شروطه في ملفات السلام، واضعاً بنوداً يدرك أنها غير قابلة للقبول لدى موسكو، كالتراجع عن ضم الشرق أو تجميد عضوية كييف في “الناتو”. ليس لأنه يؤمن بـ”سلام كامل”، بل لأنه يعرف أن أي إنهاء سريع للحرب يعني فقدان نفوذ استراتيجي في أوكرانيا والقطب الشمالي معاً.

الأصول المجمّدة: الاقتصاد يتحول إلى إعلان حرب

بوتين لم يترك ذلك في إطار الشكوك، بل قالها صراحة: “أوروبا هي من يعرقل السلام”. وجاءت عباراته أكثر مباشرة حين أضاف أن مقترحات الأوروبيين “غير مقبولة إطلاقاً”، وأن واشنطن وحدها تعرف واقع الأرض، فيما أوروبا متأخرة ومكبّلة ومترددة.

التصعيد لم يتوقف هنا. فاقتراح المفوضية الأوروبية استخدام الأصول الروسية المجمدة كضمان للقروض الجديدة لدعم أوكرانيا، اعتبرته موسكو إعلان حرب صريح. الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، الذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، هدّد بأن ذلك سيكون مبرراً للحرب، فيما وصف بوتين خطوة بروكسل بأنها “سرقة مجنونة”، محذراً الاتحاد الأوروبي بأن “روسيا قد تنظر إلى هذا الإجراء باعتباره سببا للحرب، مع كل العواقب التي يمكن أن تترتب على بروكسل ودول الاتحاد الأوروبي بشكل فردي”.

فشل المناورة الأوروبية: قوة بلا قرار

في المقابل، تجد أوروبا نفسها أمام معادلة مستحيلة: إن ضغطت لإنهاء الحرب تفقد نفوذها، وإن واصلت الدعم العسكري تستنزف اقتصادها وتظل رهينة القرار الأميركي، خصوصاً أن واشنطن بدأت تخفّض وجودها العسكري شرق أوروبا، في رسالة مكشوفة: اعتمدوا على أنفسكم، لن نؤمّن لكم المظلّة كما في السابق. هذا ما ظهر بوضوح بعد فشل المناورة الكبرى مؤخراً في رومانيا بقيادة فرنسا، والتي كشفت هشاشة الدفاع الأوروبي في اللوجستيات والاستخبارات والدفاع الجوي والضربات البعيدة، مؤكدة أن أوروبا بلا واشنطن قوة رمزية أكثر منها فعلية.

المفارقة أن الأوروبيين لا يثقون بواشنطن أيضاً. تسريبات “دير شبيغل” أظهرت أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حذّر من “خطر بالغ” على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي في محادثات السلام، بينما اعتبر المستشار الألماني فريدريش ميرتس، أن الأميركيين “يلعبون لعبة”، مطالباً كييف بالحذر. أما الأمين العام للناتو مارك روته، فذهب أبعد: “يجب حماية زيلينسكي”، في إشارة إلى الشعور الأوروبي بأن كييف تُترك تدريجياً لمصير تفاوضي تُحدّده موسكو وواشنطن وحدهما.

الذروة جاءت مع تصريح رئيس اللجنة العسكرية للناتو جوزيبي كافو دراغوني، حول تفكير الحلف في “هجوم استباقي” ضد روسيا رداً على العمليات الهجينة، في خطوة كشفت رغبة “الناتو” في عدم الاعتماد الكلي علي القرار الأميركي، في لحظة يكشف فيها المتحدث العسكري الألماني كريستيان فرويدينغ، لـ”ذا أتلنتيك” أن الاتصالات بين الجيشين الأميركي والألماني جُمّدت تقريباً، لدرجة تُجبر المسؤول الألماني عن تنسيق الدعم لكييف على اللجوء إلى السفارة  الألمانية في واشنطن، للحصول على معلومات حول الخط الأميركي بشأن قضايا السياسة الأمنية.

2027: أوروبا وحيدة في الميدان

وفي سياق متصل، يصبح هذا الابتعاد الأميركي عن الناتو حقيقة لا تهويلاً، بعدما أبلغت واشنطن حلفاءها بأن على أوروبا تسلّم جزء أساسي من مسؤوليات الحماية داخل الحلف بحلول عام 2027. أي أن الدور العسكري الأميركي الذي شكّل العمود الفقري لـ”الناتو” منذ 1949، يتحوّل الآن إلى عبء مطلوب من الأوروبيين تحمّله، بشرياً وتسليحاً وتمويلاً.

هذه المهلة الزمنية القصيرة تجعل ما يجري ليس مجرد إعادة تموضع أميركية، بل انسحاباً تدريجياً من وظيفة “الضامن الأمني” لصالح توكيل الدفاع الأوروبي لنفسه. وبذلك يتعمّق الخوف الأوروبي من أن أي “سلام” يُصاغ بين موسكو وواشنطن، لن يُراعى فيه موقع القارة ولا امتيازاتها، بل سيؤكد واقع أنها لم تعد لاعباً بل مساحة نفوذ متنازع عليها.

سلام يُدار خارج أوروبا

كل ذلك يفضح المشهد كما هو: الحديث عن السلام ليس سوى عنوان ناعم لحرب نفوذ اقتصادية وجيوسياسية، طرفاها الفعليان واشنطن وموسكو، فيما أوروبا محاصرة بين خوفها من الخسارة الاقتصادية والعسكرية، وعجزها عن امتلاك قرار مستقل. والأخطر أن التصعيد الأوروبي الروسي لن يتراجع إذا واصلت واشنطن إدارة الملف وفق مصالحها الخاصة لا وفق مصالح المعسكر الغربي ككل. هنا بالضبط، يتكشّف “السلام” كأداة ابتزاز لا كمسار إنهاء حرب.

سلام واشنطن-موسكو: صفقات سرّية وتقاسم نفوذ .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print