لم تهدأ طوال الأسابيع الماضية الاتصالات والجهود السياسية – القضائية على خطّ بيروت – دمشق من أجل الدفع بسبل الحلّ لقضية الموقوفين السوريين في السجون اللبنانيّة قدمًا. وتتمثّل الجهود السياسية بالحركة التي يقوم بها نائب رئيس الحكومة طارق متري، الذي زار دمشق قبل أسبوعين في هذا السياق بتنسيق كامل مع رئيس الحكومة نواف سلام، الذي التقى أمس الأول بالرئيس السوري أحمد الشرع على هامش “منتدى الدوحة”.
من الطبيعي أن يكون لقاء الرئيسين سلام والشرع قد بحث آخر المستجدات المتعلقة بتطور العلاقة المؤسساتية بين البلدين. لكنّه أيضًا يشكل دفعًا سياسيًا لتأكيد حرص القيادتين في بيروت ودمشق على طي الصفحة السوداء من “حقبة آل الأسد” في العلاقات الثنائية، نحو عنوانٍ جديد يعكس المتغيرات السياسية التي شهدها البلدان منذ فرار بشار الأسد وأركان نظامه قبل عامٍ.
أما الجهود القضائية فتتمثّل بالفريق القضائي – الأمني الذي يعمل على تذليل العقبات القانونية وإيجاد السبل التقنية المطلوبة لحل هذا الملف العالق من أيام النظام السوري السابق. إذ يعمل الفريقان القضائيان اللبناني والسوري بتوجيه من قيادتي البلدين على صياغة الحلول التي تحفظ سيادة لبنان وسوريا، وتنصف الموقوفين السوريين، وتحديدًا المعتقلين السياسيين منهم، مع مراعاة القوانين المرعية في لبنان.
اتفاقية ثنائية سريعة؟
آخر ما توصلت إليه هذه الجهود هو ما كشفته مصادر مطلعة لـ”المدن” عن توجه وفد قضائي لبناني إلى العاصمة السورية يوم الأربعاء المقبل لعرض “اتفاقيّة ثنائيّة سريعة” من شأنها أن تذلل غالبية العقبات في ملف الموقوفين السوريين، في حال اتفق عليها الجانبان.
في التفاصيل التي حصلت عليها “المدن” أنّ الاتفاقية التي يحملها الوفد اللبناني تشبه إلى حد كبير “الاتفاق حول نقل المجرمين بين حكومة الجمهورية اللبنانية وجمهورية باكستان الإسلامية”. وأساس هذا الاتفاق بين بيروت وإسلام آباد هو إمكان أن ينفذ الموقوفون عقوبتهم داخل مجتمعهم. أي أن أي موقوف باكستاني في لبنان يُسلّم إلى حكومة بلاده ليقضي محكوميته في باكستان، والعكس بالنسبة للبنانيين.
كذلك تكمن أهمية هذه الاتفاقية أنها تسهل الحلّ بالنسبة للمحكومين بأحكامٍ نهائية لا تقبل المراجعة. وهذا من شأنه أن يذلل عقبة “المدانين بالقتال ضد الجيش اللبناني”، وهي تعتبر العقبة القانونية الأبرز.
لكنّ المهم أيضاً بشأن هذه الاتفاقية أنّه يمكن توقيعها من قبل رئيسيْ الجمهورية لدى البلدين، وأن تصبح نافذة من دون أن تدخل في “بازار” السياسية اللبنانية الداخلية، ما قد ينعكس على العلاقات الثنائية بين لبنان وسوريا.
كذلك تتضمن الاتفاقية اللبنانية – الباكستينة مادة حول “الإسقاط والإبدال”، وهي مادة تسمح لطرفي الاتفاق بإسقاط العقوبة وإبدالها وفقًا لقوانينه.
بكلامٍ آخر، فإنّ توقيع اتفاقية كهذه بين لبنان وسوريا سيؤدي إلى نقل وإطلاق سراح قسم كبير من الموقوفين السوريين، مع مراعاة جدلية القتال ضدّ الجيش اللبناني، وفي الوقت نفسه مراعاة المطلب السوري حول الموقوفين السياسيين.
يقول مصدر أمني لـ”المدن” إنّ ما كان نافذًا في لبنان قبل عام حول تعريف مسألة الانتماء لـ”جبهة النصرة” أو “هيئة تحرير الشام” لم يعد نافذًا اليوم، بخاصة أن ما شهده العام الأخير من تغير تصنيفات الإرهاب في الولايات المتحدة والدول الغربية يحتم على لبنان أن يغير نظرته. كما أن من غير الممكن أن يكون لبنان بعيدًا عما شهدته سوريا والعالم من متغيرات في هذا الملف. ومن مصلحة لبنان أن يحافظ على أفضل العلاقات الندية مع سوريا، بناء على مبدأ احترام ما يقرره الشعب السوري بشأن مصيره.
ليس سرًّا أنّ تهمة “الانتماء لجبهة النصرة” كانت من التهم السياسية الجاهزة على مدى السنوات الماضية لتوقيف المعارضين السوريين. وهذا ما عقّد ملف الموقوفين الذين تطالب دمشق بإطلاق سراحهم من سجون لبنان.
المتغيرات السياسية
مرد هذا كان إلى سطوة نظام بشار الأسد لدى بعض الشخصيات الأمنية والقضائية. لكن التغيير لم ينحصر في سوريا فقط، إذ أرخى بظلاله على لبنان الذي شهد انكفاءً لنفوذ الشخصيات التي كانت تعتبر مقربة من النظام السوري المخلوع.
كما أن المتغير الأساسي في السياسة اللبنانية حول العلاقات مع دمشق رُسّخ رسميًا بخطاب القسم لرئيس الجمهورية جوزاف عون الذي جاء فيه: ” لدينا فرصة تاريخية لبدء حوار جدي وندي مع الدولة السورية بهدف معالجة كافة المسائل العالقة بيننا، لا سيما مسألة احترام سيادة واستقلال كل من البلدين وضبط الحدود في الاتجاهين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي منهما، وملف المفقودين وحل مسألة النازحين السوريين لما لها من تداعيات وجودية على الكيان اللبناني والتعاون مع الأخوة السوريين والمجتمع الدولي لمعالجة هذه الأزمة، بعيدًا من الطروحات العنصرية أو المقاربات السلبية”.
وأيضاً ورد في البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام الذي نال ثقة جميع الأطراف المشاركة فيها: “… وترى الحكومة أننا أمام فرصة لبدء حوار جاد مع الجمهورية العربية السورية يهدف إلى ضمان احترام سيادة كل من البلدين واستقلالهما وضبط الحدود من الجهتين وترسيمها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من البلدين”. إذ إن توجيهات رئيس الوزراء وما يعمل عليه نائبه طارق متري هي من صلب روحية البيان الوزاري، الذي يعمل سلام على تطبيق كل ما ورد فيه أكان في بند “حصر السلاح بيد الدولة” أو في مسألة “العلاقات مع الدول العربية” والتي من ضمنها نسج أفضل العلاقات الندية مع الدولة السورية.
وفد قضائي إلى دمشق: حلّ للموقوفين يُشْبه الاتفاق مع باكستان؟ .