ما دامت الطبقة السياسية تتقن سياسة الوجهين فسيتحول كل ملف إلى أزمة جديدة وكل أزمة إلى فرصة لشراء الوقت بدلاً من صناعة المستقبل
لبنان تحكمه دولة عميقة لا تشبه ما نراه من وجوه سياسية أمام الكاميرات، بل منظومة متشابكة من المصالح التي تتقن لعبة الازدواجية والكذب وشراء الوقت. هنا لا تقال الحقائق كاملة للناس، وكل أزمة تدار بوجهين، واحد للاستهلاك الداخلي وآخر للصفقات الخارجية.
لبنان لا يحكمه من نراهم على الشاشات من وزراء ورؤساء ونواب. لبنان تحكمه دولة عميقة تشكلها طبقة سياسية ثابتة ومتداخلة من مصالح اقتصادية وعائلية وإقطاعية، تتحكم بالبلد منذ “اتفاق الطائف” وحتى اليوم. وهذه الطبقة خاضت الحرب بالأمس، وانتقلت اليوم لتخوض لعبة الحكم، لكنها أبقت أساليب الحرب في قلب الدولة، التخفي والمناورة والغموض والاغتيال السياسي، وأحزاب لم تغادر الحكومة يوماً، لا لأنها ناجحة، بل لأنها بنت نظاماً يستحيل إصلاحه من داخله، نظاماً يتغذى على الأزمات ويستمد شرعيته من الفوضى.
نحن أمام جمهورية “التذاكي”، جمهورية الرمادية المدروسة والكذب المنهجي ولعبة الوجوه المتعددة وشراء الوقت كسياسة حكم.
وفي هذه الجمهورية لا أحد يخرج ليصارح اللبنانيين، فكل ملف وكل مفاوضة وكل اتفاق يُدار بوجهين، وجه شعبي مطمئن وآخر دبلوماسي غامض، ووجه ثالث خلف الأبواب المغلقة حيث تطبخ التسويات القذرة.
أمام الناس تتحدث السلطة عن السيادة، وأمام الدبلوماسيين تقدم رواية مختلفة، وأمام المؤسسات الدولية تطلق وعوداً لا تنفذها، وبين أجنحتها تتبادل القوى السياسية الأكاذيب والتفاهمات السرية. والكذب السياسي ليس سلوكاً طارئاً في لبنان، بل جوهر طريقة الحكم، وهذه المنظومة اكتشفت منذ عقود أن استقرارها يقوم على التضليل لا على الحقيقة، وعلى التفسيرات المتضاربة لا على القرار الواحد الواضح.
ولأن كل شيء يبنى على الازدواجية، فلا حلول حقيقية في لبنان، ولا مخرج نهائياً لأية أزمة لأن الاعتراف بالحقيقة يشكل تهديداً مباشراً لبنية السلطة، فهذه الطبقة تحكم بالكذب المتبادل، لا بالحوار الصريح. وتحكم بالرمادية، لا بالقرار الواضح، لذلك كل ملف ينتهي إلى اللاشيء.
دولة بلا وجه
والدولة اللبنانية على الورق مثالية، فصل سلطات ومؤسسات رقابية ودستور واضح. لكن خلف هذه الورقة هناك سلطة ظل تمسك بالقرار الحقيقي. قوى لم تغادر أية حكومة منذ أكثر من 40 عاماً، استطاعت أن تكون أدوات بيد كل القوى التي مرت على لبنان. فهي كانت حليفة “منظمة التحرير الفلسطينية”، ثم الشريك الأول للوصاية السورية، واليوم جزء من منظومة النفوذ الإيراني التي أرساها “حزب الله”.
وهذه القوى تغير خطابها وأدبياتها تبعاً للحاجة السياسية، من دون أن تغير جوهرها أو أدواتها. وجوهر الاستعصاء اللبناني أنه لا يسمح بالمواجهة، لا يسمح بالقول “هذا هو الفاعل”، وأية لحظة تقترب من الحقيقة يجري تفخيخها داخل اللجان وفي المسرحيات الإعلامية وعبر التفسيرات المتناقضة.
وهذه الطبقة ليست مجرد أحزاب، بل منظومة تغطي نفسها بالتناقضات، فخلال النهار ترفع شعارات الإصلاح، وفي الليل تقطع صفقات مع قوى أمر واقع أو جهات خارجية، وتقول كلاماً للشارع وتقول عكسه للدبلوماسيين. وهذا السلوك ليس نتيجة عفوية، بل أداة حكم فاعلة.
الازدواجية تنتج غموضاً، والغموض يحمي السلطة، وهكذا يصبح “الكذب السياسي” ليس مجرد انحراف في الخطاب، بل بنية استراتيجية تحفظ التوازن داخل المعادلة لأنها لا تلزم أحداً بشيء ولا تفتح باباً للمحاسبة.
في هذا السياق، برعت الطبقة الحاكمة في التفسير السياسي للنصوص، فالدستور ليس مرجعاً، بل مادة للتأويل. والقرارات الدولية من 1559 إلى 1701 و1680 تقرأ وفق المزاج السياسي لا وفق النص. وحتى “اتفاق الطائف” كل يراه كما يريد، فتصبح “السيادة” كلمة مطاطة و”نزع السلاح” هدفاً قابلاً للإرجاء و”المرحلة الانتقالية” مرحلة دائمة. وهكذا تتحول النصوص إلى أداة سياسية لا إلى قاعدة قانونية.
والحل في لبنان يفترض وجهاً واحداً. لكن الحكم يمتلك 10 وجوه. لكل وجه رواية، ولكل رواية مستمع. والسلطة لا تخاف من الحرب بقدر ما تخاف من الحقيقة لأن الحقيقة تحسم، والحسم ينهي الرمادية. والرمادية في لبنان ليست خللاً، بل مهمة سياسية تهدف إلى حماية النظام ومنع المحاسبة وإبقاء الأمور معلقة.
انفجار بلا حقيقة
تفجير مرفأ بيروت لم يكُن مجرد كارثة، بل اختباراً لجوهر النظام، ففي بلد طبيعي بعد انفجار بهذا الحجم، تفتح المحاكم وتستقيل الحكومات. وفي لبنان تفتح الشاشات، لكن لا تفتح الحقيقة.
آلاف الوثائق ومئات الاستدعاءات وقضاة يتغيرون وتحقيق يتعطل ونتيجة واحدة، لا شيء لأن الحقيقة لو ظهرت لاهتز النظام، لذا تترك القضية في المنطقة الرمادية لا إغلاق رسمياً، ولا استكمال رسمياً. تعلق في الهواء حتى يتعب الناس ويموت الكلام.
هنا نرى أحد أبرز ملامح النظام، ثقافة الإفلات من العقاب، فالاغتيال السياسي في لبنان يتحول إلى حدث إعلامي ثم ينسى قانونياً. ومن اغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى لقمان سليم وجو بجاني وغيرهما، القاتل دائماً مجهول، ولو عرف الجميع في قرارة نفسه من المستفيد.
والانهيار المصرفي لم يكُن حدثاً مالياً، بل سياسياً بامتياز، فالأموال التي اختفت لم تذهب إلى الفراغ، بل إلى جيوب شبكات السلطة نفسها، زعماء وتمويل انتخابي وهندسات مالية وشبكات تهريب ومصالح حزبية وتسويات مع الخارج. لذلك لا يمكن أن نرى محاكمة حقيقية لأن المحاكمة ستكون انتحاراً سياسياً جماعياً.
هكذا جرى تكريس اقتصاد الفوضى. وتخلى النظام عن أي تنظيم مالي حقيقي، فصار التهريب شبكة وطنية متكاملة، وصار الاقتصاد النقدي ينتعش خارج المصارف، وولدت شركات وهمية لا يعرف أحد مالكها الحقيقي، وتحول “الكاش” إلى العملة الرسمية للحياة اليومية. لا قواعد ولا قوانين ولا شفافية، فقط فوضى منتجة تخدم مصالح من يعرفون كيف يقتاتون من الانهيار.
وهنا تعمل الازدواجية بكفاءة قصوى:
أمام الناس تتحدث السلطة عن “استعادة الودائع”.
وأمام الدبلوماسيين تتحدث عن “الحلول الواقعية”.
وفي الغرف المغلقة توزع الخسائر ويحمى كبار المستفيدين.
هذا هو معنى الكذب السياسي خطاب للشعب وخطاب للخارج وخطاب ثالث مخفي للصفقات.
اتفاق بلا تفسير
حتى في ملف وقف إطلاق النار مع إسرائيل يتكرر المشهد ذاته، فالسلطة تعلن شيئاً وتنفذ شيئاً وتخفي شيئاً ثالثاً. و”حزب الله” يقول إنه ملتزم فقط جنوب الليطاني، والدولة تقول إنه لا سلاح خارج الدولة، والجيش يتحدث عن تفكيك 90 في المئة من المواقع، ثم تصبح 80 في المئة، ثم 85 في المئة، وكأن الأرقام لعبة مزاجية.
ولا أحد يخرج ليشرح لأن الشرح يعني الحسم، والحسم يعني تحميل المسؤوليات، والمسؤولية في لبنان جريمة سياسية كبرى.
وهنا يظهر جانب آخر من المنظومة، لغة السلطة التحايلية. مفردات فارغة من أي مضمون مثل آلية وخريطة طريق وتفسير تقني ولجنة مشتركة وظرف استثنائي. كلمات جميلة تخفي شيئاً واحداً عدم اتخاذ القرار. فبدلاً من قول لا، يقولون “نحتاج إلى آلية”. وبدلاً من قول نعم، يقولون “ننتظر تفسيراً تقنياً”. إنها لغة لتجميل الفراغ.
والنظام في لبنان لا يحكم على رغم الانهيار، بل يحكم عبر الانهيار. وكل انهيار يولد ولاءً جديداً، ويضعف قدرة الناس على المطالبة بالحقيقة. فانهيار الكهرباء يخلق وسطاء للمولدات، وانهيار الليرة يخلق أسواق الصرف السوداء، وانهيار القضاء يخلق حكماً للأقوى. والانهيار في لبنان ليس خطأً ولا فشلاً، بل وسيلة حكم.
لبنان يعيش في نظام سياسي صنع من الغموض عقيدة حكم، ومن الكذب وسيلة بقاء، ومن الازدواجية لغة رسمية. لا أزمة تحل، بل تُدار. ولا حقيقة تقال، بل تخفى. ولا مسؤولية تحمل، بل تُرحل.
وإن ما يمنع لبنان من أن يصبح دولة طبيعية ليس غياب الحلول، بل غياب الإرادة التي تفضل الوضوح على المواربة. وما دامت الطبقة السياسية تتقن سياسة الوجهين، فسيتحول كل ملف إلى أزمة جديدة، وكل أزمة إلى فرصة لشراء الوقت بدلاً من صناعة المستقبل.
ولبنان لن ينهض إلا حين تواجه السلطة الحقيقة بوجه واحد، وتقول للناس بوضوح ماذا جرى؟ ومن فعل؟ وكيف نصلح؟ وحتى ذلك الحين ستظل جمهورية “التذاكي” التي لا تصارح اللبنانيين تدير الأزمات بدلاً من حلها، وتؤجل المواجهة بدلاً من منعها، وتستثمر في الفوضى بدلاً من بناء الدولة.
جمهورية “التذاكي”… من يصارح اللبنانيين بالحقائق الصادمة؟ .