ليس تغييراً سياسياً ما يشهده لبنان حالياً. إنّه انقلاب. وهذه المرّة، مكتوب له أن ينجح. فالطرف الوحيد الذي لطالما رفض التغيير وأصرّ على بقاء لبنان في «الستاتيكو» القديم، أي «حزب الله»، هو نفسه بدأ يفتح الطريق للعبور إلى الخيارات الجديدة، ولو في شكل غير مباشر وغير معلن.
عشية زيارة البابا للبنان، كان الجميع يدركون، وبما لا يقبل الشك، أنّ الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستشهد زلزالاً عسكرياً وأمنياً يضرب «حزب الله» بكوادره ومواقعه ومخازن سلاحه، وينعكس بقوة على بيئته وشيعة لبنان عموماً، وتكون له تداعيات كارثية على البلد ككل.
ما كان متوقعاً حصوله يتجاوز الضربات التي عاشها اللبنانيون في حرب العام الفائت، ويرجح أن يشمل توغلاً برياً من الجهة الجنوبية، لا يمكن تقدير العمق الذي يصل إليه: هل هو خط الليطاني أم أكثر؟ ويمكن أن يوازيه توغل مماثل من جهة الجنوب السوري عبر الحدود السورية ـ اللبنانية. ففي أي حال، إسرائيل تجهّز الأرضية المناسبة لجعل الجنوبين السوري واللبناني وكأنّهما منطقة عمليات عسكرية واحدة.
قبل أن يأتي المرجع المسيحي الأكبر إلى لبنان حاملاً «الكلمة السرّ» التي عمّمها وحوّلها برنامجَ عملٍ سياسياً، كان هناك حراك هادئ من جانب المرجع الشيعي الأكبر في النجف، آية الله علي السيستاني (95 عاماً)، الذي بعث برسالة إلى مرشد الثورة في إيران علي خامنئي (86 عاماً) يشرح فيها وضع الشيعة في لبنان، وما يتحمّلون من ضغوط. وطلب في رسالته أن تكفّ طهران عن تحميل شيعة لبنان ما لا يستطيعون تحمّله، لأنّ وجودهم بات في خطر. وهذه الرسالة سبقت إيفاد رئيس مجلس النواب نبيه بري مساعده الأول النائب علي حسن خليل إلى طهران، في مهمّة يمكن اعتبارها مكمّلة لاتجاه رسالة السيستاني.
في العلن، بدا أنّ إيران و«حزب الله» ليسا متحمسين للانفتاح المطلوب. فطهران ترفض استسلام «حزب الله» وانتزاع سلاحه الذي هو سلاحها أيضاً، وانتزاعه يعني زوال أي نفوذ لها على شاطئ المتوسط وحدود إسرائيل. لكن مشكلة طهران تكمن في أنّ اتجاه الأحداث هو نزع السلاح، سواء بالسياسة على يد الجيش اللبناني أو بالنار على يد إسرائيل، ولا جدوى من المعاندة في هذه المسألة. وسُمع كثير من الأصوات الشيعية التي تقول: الأفضل هو إبرام تسوية داخلية لبنانية حول السلاح. فعلى الأقل، يمكن تجنيب الطائفة هذا الحجم الهائل من الخسائر البشرية والمادية.
لذلك، كان لافتاً جداً أنّ الرئيس بري وفّر التغطية الشيعية لتعيين السفير السابق في واشنطن، المحسوب في صف 14 آذار، مفاوضاً مدنياً عن الجانب اللبناني في اجتماعات «الميكانيزم». وما يبديه شريكه في «الثنائي»، «حزب الله»، من شكوك أو ترقّب عبّر عنه أمينه العام الشيخ نعيم قاسم أمس، في موقف بدا تصعيداً في حدّة الكلام، ولكنه لا يتحرّك عملانياً لنقض القرار أو إسقاطه، وهذا هو المهمّ. ففي واقع الأمر، وافق «الحزب» على تجيير القرار إلى «الأخ الأكبر» نبيه بري، واثقاً في قدرته على إيجاد طريقة لتجنيب الشيعة ما يتهدّدهم من كوارث محتومة. وعلى الأرجح، وافقت إيران على ذلك أيضاً، مرحلياً، لإمرار الظرف الصعب، بتشجيع من أصوات الاعتدال هناك. وبعد ذلك، يكون لكل حادث حديث. وقد استفاد رئيس الجمهورية جوزاف عون من الوكالة الشيعية ليمضي في المسار الذي يضغط الأميركيون لتحريكه، مسار المفاوضات.
ولكن، للتذكير، إسرائيل التي تعتبر نفسها اليوم في أوج الانتصار، وفي أفضل وضع دولي وإقليمي، تدرك نقاط الضعف التي تصيب «الحزب» ولبنان عموماً، بعد الحرب الخاسرة وتوقيع الاتفاق غير المتوازن، في تشرين الثاني 2024. ولذلك هي بدأت رفع سقف مطالبها إلى الحدّ الأقصى. بل إنّها قرّرت ابقاء لبنان في نار الحرب، ولو وافق على التفاوض، لوضعه داخل كماشة ضغط لا تُقاوم، وتثمير ذلك في مكاسب عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية. وفي أي حال، هي أعلنت صراحة أنّ هناك منطقة في الجنوب اللبناني ستبقى تحت سيطرة إسرائيلية وأميركية بعنوان «قوات متعددة الجنسيات»، ويقول الأميركيون إنّها ستكون منطقة اقتصادية تحمل اسم دونالد ترامب، وعلى الأرجح ستكون مفصولة تقريباً عن دولة لبنان وسيادتها. وستوازيها منطقة مماثلة في الجنوب السوري، وتتعاطى إسرائيل مع المنطقتين كأنّهما منطقة واحدة.
في الواقع، استنفد «حزب الله» كل خياراته. فلا قدرة له بعد اليوم على مواجهة إسرائيل عسكرياً. وبدأ «الحزب» وإيران يفكران في أنّ التنازل للداخل اللبناني يبقى أقل خطراً وأدنى خسائر من مواجهة طاحنة مع إسرائيل، ولا بأس في اعتماده مرحلياً على الأقل، لعلّ شيئاً يتغيّر في التوازنات، فيسمح بعودة السلاح مجدداً ذات يوم. لكن هذا الرهان على استنهاض السلاح بات في غير محله بالتأكيد. فإسرائيل والولايات المتحدة والعرب لن يسمحوا بعودة «الحزب» وسلاحه إلى ما كانا عليه قبل الحرب.
اليوم، لا يعرف «حزب الله» ماذا يفعل: لا هو قادر على الردّ منذ عام، على رغم تصفية إسرائيل نحو 365 عنصراً وكادراً له في غضون نحو 365 يوماً. ولا هو قادر على تبرير صمته الطويل، ولا هو قادر على قبول بنود وقف النار ولا التنكر لها، ولا الدخول في مفاوضات مع إسرائيل ولا رفضها تماماً. هو يعرف أنّه كيفما تحرك سيرتكب «دعسة ناقصة»، في السياسة كما في العسكر. لكنه أيضاً لا يستطيع إلّا أن يتحرّك، لأنّ حاله تشبه سائق الدراجة المضطر إلى تحريك الدواسة دائماً لئلا يقع أرضاً. لذلك، بدأ «الحزب» مسار تنازلات حقيقية، عندما منح بري وكالة ضمنية في ما يتعلق بخيارات الطائفة، وسيمنحه مزيداً يوماً بعد يوم، بدفع من قوى الاعتدال والانفتاح والبراغماتية في داخل بيئة «الحزب» وطهران نفسها… وفي النهاية، سيسلّمه القرار بخياراته الكبرى، بما في ذلك سلاحه. إنّها مسألة وقت فقط.
«الحزب» يسلّم مصير الشيعة لـ«الأخ الأكبر» .