خطا لبنان خطوة نوعيّة في ملفّ التفاوض مع إسرائيل، عبر إسناد رئاسة الوفد اللبنانيّ في اجتماعات “الميكانيزم” إلى شخصيّة مدنيّة هي السفير سيمون كرم، إنفاذاً لرغبة الإدارة الأميركيّة بوضع لبنان على سكّة التفاوض السياسيّ، الذي لا توصل دروبه إلّا إلى طاحونة اتّفاق السلام. سواء أقرّ اللبنانيّون بذلك أو اختبؤوا خلف إصبعهم، لإدارة دونالد ترامب هدف واحد: توسيع قاعدة الاتّفاقات الإبراهيميّة. أمّا هل تنجح الخطّة أم تفشل… فتلك مسألة أخرى؟
فاجأ الكثيرين إعلانُ رئاسة الجمهوريّة تسمية ابن جزّين، ومطلق شعار “جزّين أوّلاً”، بكلّ ما كان يحمله من اعتبارات سياديّة وما كان يثيره من حساسيّات، رئيساً للوفد اللبنانيّ إلى الاجتماعات التي تجري على طاولة مشتركة تضمّ الإسرائيليّ والأميركيّ والفرنسيّ والأمميّ، لكنّ المطّلعين يجزمون أنّ هذه الطبخة وُضعت على نار هادئة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، ولم يجرِ تأخيرها لأسباب لبنانيّة بتاتاً، وإنّما بسبب المماطلة الإسرائيليّة، الأمر الذي دفع رئيس الجمهوريّة جوزف عون إلى المجاهرة بعدم تجاوب الإسرائيليّ مع المبادرة التي أطلقها من الجنوب في عيد الاستقلال.
لكنّ من تسنّى لهم الاستفسار من الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس في تلك الفترة يؤكّدون أنّ الدبلوماسيّة الأميركيّة كانت تجزم أنّ الإسرائيليّ لا يرفض الانخراط في مسار تفاوضيّ غير عسكريّ، وإنّما ثمّة تفاصيل تحتاج إلى معالجة. وإذ بتلك التفاصيل تجد طريقها إلى الحلّ، مساهِمةً في الإعلان رسميّاً عن ترفيع صيغة الاجتماعات في الناقورة من المستوى العسكريّ إلى السياسيّ، بعدما نال اسم سيمون كرم تشجيعاً أميركياً.
ماذا بعد تلك الخطوة؟
وفق المعلومات، ستواصل لجنة “الميكانيزم” اجتماعاتها الدورية (اجتماع كل أسبوعين)، لكنّها ستكون بعد الآن برئاسة الموفدَين المدنيَّين، أي سيمون كرم من الجانب اللبنانيّ، والمسؤول عن ملفّ السياسة الخارجيّة في مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ يوري رِسنيك من الجانب الإسرائيليّ. أعلن رئيس الجمهورية صراحة إنّ الاجتماع الأول مهّد الطّريق لجلسات مقبلة ستبدأ في 19 من الشهر الحالي، أي بعد أسبوعين. لكن من غير المرجّح أن تحضر أورتاغوس كلّ اجتماع. في المقابل، سيكون للسفارتين الأميركيّة والفرنسيّة مندوب سياسيّ مشارك إلى جانب المندوب العسكريّ، عملاً بمبدأ المواءمة بعدما صارت اللجنة سياسيّة – عسكريّة الطابع.
هل هذا يعني أنّ التّصعيد العسكريّ انتهى؟
لا أحد من الدبلوماسيّين المتابعين للملفّ اللبنانيّ يجزم بأنّ بنيامين نتنياهو قرّر وضع “البندقيّة” جانباً. لا بل يلجأ هؤلاء إلى النموذج السوريّ لاستخلاص النتائج، حيث أخذت المفاوضات السياسيّة المباشرة مداها بين الجانبين ونجحت في وضع مسوّدة ترتيبات أمنيّة، لكنّها لم تردع إسرائيل ولم تمنعها من مواصلة تنفيذ اعتداءاتها. حتّى إنّ هناك من يقول إنّ النظام السوريّ الجديد أبدى موافقته على كلّ الترتيبات الأمنيّة التي طلبتها إسرائيل، لكنّ الأخيرة لم تعطِ جوابها النهائيّ، وتستمرّ في استخدام لغة النار.
إذاً لا يضمن انخراط إسرائيل في مسار تفاوضيّ غير عسكريّ مع لبنان عدم لجوئها إلى التصعيد، الذي تتوعّد به منذ أسابيع محذّرةً لبنان من انتهاء المهلة المحدّدة في نهاية العام الحاليّ لنزع سلاح “الحزب”، وخصوصاً أنّ دبلوماسيّين عرباً وغربيّين يؤكّدون أنّ إطلاق طاولة التفاوض السياسيّ هو مطلب أميركيّ قبل أن يكون مطلباً إسرائيليّاً لأنّ الإدارة الأميركيّة تعتبر هذه المشهديّة أو هذا الخرق إنجازاً لدونالد ترامب الذي يعمل على ترسيخ السلام في المنطقة.
بالنتيجة، تبدو مشهديّة الناقورة محكومة بمعادلة شبيهة بتلك التي تحكم مشهديّة الحدود السوريّة الجنوبيّة: ضغط أميركيّ باتّجاه إطلاق مسارات تفاوضيّة تلجم الاعتداءات الإسرائيليّة، مقابل إصرار إسرائيليّ على استنفاد كلّ وسائل النار قبل الجلوس إلى طاولة التفاوض، بدليل مواصلة إسرائيل يوم أمس ضرباتها في الجنوب بعد 24 ساعة فقط من انتهاء اجتماع الميكانيزم. وهو ما يعني أنّ الحدود اللبنانيّة كما الحدود السوريّة تشهدان عمليّة شدّ حبال وضغط بين الإدارة الأميركيّة وإسرائيل لتحديد مصيرها ومسارها.
على الرغم من ذلك تحيط الضبابيّة بطاولة الناقورة: يبدي لبنان حذراً في التوسّع في جدول الأعمال ليحصر النقاش بملفّ السلاح وما على ضفافه من إشكاليّات يجب معالجتها تمهيداً لوضع ترتيبات أمنية، فيما الإسرائيليّ راح يوظّف الخطوة ليضعها في إطار التطبيع الاقتصاديّ مع العلم أنّ بروفايل سيمون كرم لا يتلاءم مع هذه الوظيفة (البعض يراها اختباراً من الجانب الإسرائيليّ لردّة فعل اللبنانيّين)، فيما الأميركيّون يتحدّثون صراحة عن رغبتهم في أن تكون هذه اللقاءات بداية مسار سياسيّ يوصل إلى اتّفاق سلام. أبلغ مسؤولون أميركيّون مسؤولين لبنانيّين بشكل واضح أنّ المطلوب هو انضمام لبنان إلى الاتّفاقات الإبراهيميّة.
في هذا السياق، عبّر منشور وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو مساء الخميس على منصة “إكس”، بشكل عملي عن مهمّة المحادثات، اذ وصفها “بأنها مهمّة لتجنّب أي تصعيد جديد والمضي قدماً في جهود ترسيخ السلام”. بالتالي، يبدأ دور اللجنة من تفكيك ألغام التصعيد، وينتهي بفتح الباب أمام مفاوضات السلام. ينتظر أنّ يحطّ الموفد الفرنسي جان- إيف لوريان في بيروت الإثنين المقبل، وعلى جدول أعماله متابعة أعمال اللجنة، والإصلاحات المطلوبة من لبنان لتحديد موعد مؤتمريّ الدعم اللذين لا يزالان حبراً على الورق، بانتظار أن ينفّذ لبنان إلتزاماته.
لكنّ هذا لا يعني أنّ مهمّة اللجنة ستكون مناقشة اتّفاق سلام، كما يؤكّد دبلوماسيّون غربيّون مشيرين إلى أنّ اتّفاقاً على هذا المستوى يتطلّب وقتاً طويلاً وظروفاً لا تزال غير ملائمة. لكنّ توسيع “الميكانيزم” بعد ضمّ موفدَين مدنيَّين يسهّل عملها، ويتيح إجراء تواصل سريع بين الجانبين اللبنانيّ والإسرائيليّ، ولو بطريقة غير مباشرة، الأمر الذي يساعد على تفعيل عمل اللجنة ويساعد على معالجة الكثير من الإشكالات العالقة، من دون الحاجة إلى انتظار الوسيط الأميركيّ ليقطع المحيط، ثمّ الحدود اللبنانيّة – الإسرائيليّة لنقل الرسائل. أصبح نقل الرسائل ومعالجتها عمليَّين وتنفيذيَّين أكثر.
حتى الآن، تكتفي المصادر اللبنانية المعنية، بالتأكيد أنّ مهمة الميكانيزم لا تزال، منذ تأليفها، العمل على وضع ترتيبات أمنية لوقف نهائي للأعمال العدائية التي يتعرّض لها لبنان، وبالتالي ضمان الاستقرار والهدوء على طول الحدود. ولبلوغ هذا الهدف لا بدّ من معالجة القضايا العالقة، أي انسحاب إسرائيل من النقاط المحتلة، إطلاق الأسرى وتثبيت الحدود. وهذا الأمر تمّ إبلاغه من الجانب اللبناني، إلى المعنيين باللجنة، أي الأميركيين والفرنسيين واليونيفيل، منذ أكثر من ستة أشهر. ولم تتغيّر المهمة حتى لو تغيّرت طبيعة الوفد وجرى تطعميه بشخصية مدنية.
“الميكانيزم”: أوّلها كلام… وآخرها سلام؟ .