“تمدين” لجنة “الميكانيزم” مقدمة لحلّ شامل أم تجميد لحرب محتملة؟

Doc-P-1451053-639005216174908918

انشغل لبنان السياسي والشعبي في تفسير أبعاد ضم مدني لبناني هو السفير سيمون كرم لكي يرأس الجانب اللبناني في لجنة “الميكانيزم” في مقابل ضم اسرائيل مدنيًا هو يوري رسنيك، المسؤول في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وقد ذهب بعض المشكّكين بخلفيات هذا التعيين إلى حدود التفتيش عمّا كانت عليه السيرة السياسية للسفير السابق وغربلة مواقفه السابقة يوم كان عضوًا في “لقاء قرنة شهوان” حيال الوجود السوري آنذاك ومعارضته الشديدة لتنامي قوة “حزب الله” العسكرية.

وكعادتهم انصرف كثيرون من اللبنانيين إلى التلهي بالتفاصيل والشكليات فيما توقف عدد قليل أمام المؤشرات السياسية لهذه الخطوة، التي لها ارتباطات حتمية بما يُخطّط لمستقبل المنطقة، وبالأخص في الدول أو القطاعات التي هي على تماس مباشر مع خطّ النار الإسرائيلي كقطاع غزة ولبنان وسوريا. وهذا ما تدعو إليه الولايات المتحدة الأميركية وتعمل عليه سوريًا ولبنانيًا وفلسطينيًا، وإن بخطوات غير متوازنة وغير منسّقة.

ففي بلدٍ كلبنان اعتاد سياسيوه على أن يقرأوا ما بين السطور، وأن تلتقط “انتناتهم” تبدّل الرياح قبل أن تهبّ، جاء انضمام لبناني واسرائيلي كمدنيين إلى لجنة “الميكانيزم” ليطرح أكثر من سؤال من دون أي توضيح من الجهات الرسمية عن دواعي ودوافع هذه الخطوة التي لها نكهة أميركية، خصوصًا أنها تبدو في الظاهر والشكل خطوة صغيرة، مع أنها في المضمون والمغزى تؤشّر إلى ما هو أبعد مما يظهر للعين المجردة، خصوصًا أن هذه الخطوة تبدو كأنها نافذة قد فُتحت نصف فتحة على تطوّر أكبر، أو كأنها ترسيم غير معلن لمرحلة دخلت فيها المنطقة كلّها، لا لبنان وحده، في المسار المرسوم أميركيًا.

فاللجنة التي وُلدت لإطفاء حرائق الحدود، باتت فجأة تشبه شيئاً آخر. أي بمعنىً آخر القبول بحوار نصف سريّ، ونصف مُعلن، بين دولتين هما عدوتان. فهل وُضع لبنان أمام فصل جديد من إدارة النزاع، أم أمام محاولة خجولة لتهدئة طويلة لم تنضج شروطها بعد؟

من الواضح أن واشنطن تتحرّك منذ أسابيع على خطّي لبنان وسوريا بطريقة توحي بأنّ شيئاً ما يتبلور من خلال ما تمارسه من ضغط من هنا، ورسائل من هناك، واجتماعات في الظلّ، و”ميكانيزم” يتوسّع ليضمّ صوتاً مدنياً، من كلا الجانين، بدلًا من أن يبقى حكراً على العسكر.

في الظاهر، ووفق قراءة سياسية، فإن ما تقوم به واشنطن ليس تفصيلاً. فهي لا تبحث اليوم عن حلول نهائية بقدر ما تسعى إلى تنظيم الفوضى، ووضع الأزمة اللبنانية – الإسرائيلية ضمن إطار يمكن التحكّم به، من خلال ضبط لإيقاع محسوب، وتهدئة قابلة للتمديد، وخطوات صغيرة تمنع الانفجار الكبير.

داخلياً، ارتبك المشهد. فالبعض سارع إلى اعتبار دخول المدنيّين “تطبيعاً مُقنّعاً”، بينما رأى آخرون أنّ الخطوة قد تُخفّف منسوب الاحتكاك وتمنع حرباً لا قدرة للبنان على تحمّلها. وهذا ما هدف إليه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون من خلال هذه الخطوة، التي وصفها البعض ب”الجريئة”، وذلك  في محاولة منه لتوظيف الأمر كإشارة إلى أنّ الدولة لا تزال قادرة على الإمساك ببقايا الخيط الذي يربط الجنوب بالشرعية الدولية، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى كسب المزيد من الوقت الإضافي.

ومع ذلك، يبقى هاجسٌ واحد يثقل كاهل كل هذا المشهد، وهو أن أي خطوة غير مدّعمة بتفاهم داخلي قد تتحوّل سريعاً إلى مادة انقسام، ما قد يولد انفجارًا سياسيًا يُضاف إلى القنابل السياسية الموقوتة، وما أكثرها.

وفي خلفية هذا المشهد، جاءت زيارة البابا لاوون الرابع عشر لتضع على الطاولة ورقة لا يمكن تجاهلها. فالأجواء التي رافقت زيارته لم تكن مجرّد احتفالية روحية، بل كانت مسعىً فاتيكانيًا متجددًا لإعادة ضخّ شيء من الأمل في بلد يعيش فوق خط الزلازل السياسية والأمنية. فزيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية، في توقيتها ومضمونها، كانت جرعة مضادّة لليأس. فلبنان، في نظر الفاتيكان، ليس مشروع ساحة، ولا مساحة للانهيار الشامل، وأنه من غير المسموح تركه ينزلق إلى مجهول لا قعر له. وهذه الرسالة البابوية تسهم إسهامًا مباشرًا في دعم الجهد الدولي لمنع انفجار الجبهة الجنوبية.

وقد يكون تعيين مدني لبناني مقابل مدني إسرائيلي تطوّرًا إيجابيًا، لأن وجود العنصر المدني في لجنة “الميكانيزم” يعني نظريًا، مساحة أوسع للحوار، وخفض منسوب التوتر الميداني، ومحاولة لإدخال السياسة إلى قلب الميدان، وربط الأمن بالاقتصاد والإنسان وليس بالسلاح وحده. وهذا ما حاولت تل أبيب التلميح إليه عقب هذا التعيين.

قد يكون تعيين مدنيّين في لجنة “الميكانيزم” مجرّد تفصيل، وقد يكون أيضًا الشرارة الأولى في مسار طويل قد يغيّر قواعد اللعبة على الحدود. لكن ما هو مؤكّد هو أن لبنان يقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة: فلا حرب شاملة، ولا سلام ، بل هو وسط منطقة رمادية تمتد من دمشق إلى الناقورة، تديرها واشنطن، وتراقبها أوروبا، ويتنقّل البابا في أروقتها الروحية بحثاً عن كلمة تُطفئ نار القلق. وفي هذه المنطقة الرمادية، يسير لبنان في حقل من الألغام. وما يشهده اليوم من تطورات متسارعة قد لا يكون سوى صفحة أولى من كتاب قد يُقرأ لاحقًا.

“تمدين” لجنة “الميكانيزم” مقدمة لحلّ شامل أم تجميد لحرب محتملة؟ .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print