هل يقود المسار التفاوضي إلى بوابة الاتفاقات الإبراهيمية؟

image-1764788591

” بالتنسيق والتعاون بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام”، بدأت رحلة المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، وذلك “ “دعماً للسلام الدائم والازدهار المشترك لكلا الجانبين”، كما جاء في البيان الرسمي الصادر عن  لجنة الميكانزيم التي اجتمعت في الناقورة بحضور ضم السفير اللبناني السابق سيمون كرم والمدير الأعلى للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يوري رسنيك إلى المستشارة مورغان أورتاغوس كمشاركين مدنيين.

وكانت جولة البابا لاوون الرابع عشر، التي تلاها الاجتماع بعد يوم على انتهاء الزيارة، تحت عنوان “طوبى لفاعلي السلام”، قد شكلت خلفية لطرح السؤال الجوهري حول موقع لبنان في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، خصوصًا بشأن عودة النقاش حول مستقبل العلاقات العربية–الإسرائيلية وما إذا كان لبنان قادرًا، أو مستعدًا، للالتحاق بمسار الاتفاقات الإبراهيمية، ذلك أنه يعيش اليوم معادلة دقيقة بسبب الانقسام الداخلي والحاجة الملحّة إلى الاستقرار، من جهة، وبين بنية سياسية وأمنية تجعل اتخاذ أي قرار استراتيجي بالغ التعقيد، من جهة أخرى.

الدوافع والضغوط

على مستوى الدوافع، يشكل الوضع الأمني والاقتصادي المأزوم والمستمر للدولة اللبنانية دافعاً للبحث عن مسارات قادرة على وقف التدهور. ورغم أن التطبيع أو السلام الشامل ليس مطروحًا رسميًا على طاولة الدولة، وهذا ما عبّر عنه الرئيس نواف سلام بوضوح في تصريحاته الأخيرة بقوله: “لسنا بصدد مفاوضات سلام مع إسرائيل والتطبيع مرتبط بعملية السلام”، إلا أن الحاجة إلى وضع حدّ لدورات الحرب مع إسرائيل، تلك الحرب التي لم تتوقف وتعود للواجهة كل فترة لتشلّ الاقتصاد وتستنزف المجتمع، تشكل عاملًا مشجعًا لدى جزء من النخبة السياسية التي ترى أن استمرار حالة الحرب يمنع إعادة بناء الدولة ويُفقد لبنان أي فرصة لالتقاط أنفاسه. فكرة «السلام» هنا تأتي كوسيلة لإعادة تثبيت الاستقرار وإيقاف النزاعات التي تمنع أي انتعاش اقتصادي محتمل.

       

الميكانيزم وحدود الحركة اللبنانية

ويرتبط الموقف الرسمي اللبناني أيضًا بما قاله الرئيس جوزاف عون في خطاب الاستقلال، حين شدّد على أن أي خطوة تتعلق بالانخراط في اتفاقات أو مسارات سياسية كبرى يجب أن تتم «بالتكامل مع الدول العربية» وبما يحفظ الثوابت الوطنية. هذا الطرح يعكس بوضوح إدراكًا بأن لبنان لا يستطيع التحرك منفردًا في مسار بهذه الحساسية، وأن أي تغيير استراتيجي في علاقة لبنان بإسرائيل يحتاج إلى مظلة عربية أوسع. ورغم تجنّب عون ذكر أسماء، إلا أن السياق الإقليمي يضع هذه الإشارة ضمن مناخ عام يترقّب إعادة التموضع العربي في ظل تغير الاتجاهات الإقليمية الكبرى.

وفي هذا السياق يقول الرئيس السابق الجامعة اللبنانية والوزير السابق الدكتور عدنان السيّد حسين لـ”المدن”: “الموقف اللبناني واضح وثابت من الاتفاقات الإبراهيمية. فقد عبّر عنه رؤساء الجمهورية والحكومات المتعاقبة، لا تطبيع ولا علاقات مع إسرائيل، وأي تواصل يقتصر على التفاوض التقني المتعلق بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية وبأقل الشروط الأمنية الممكنة”. ويشير السيّد حسين إلى “أن هذا التفاوض يستند إلى اتفاق 27 كانون الأول 2024 الذي قامت على أساسه لجنة الميكانيزم بقبول أميركي–فرنسي، وهي الآلية المعتمدة حاليًا لضبط الوضع الحدودي. هذا التثبيت لموقع الدولة يعكس حدود الحركة اللبنانية، مهما كانت الضغوط أو الرهانات الإقليمية والدولية”.

الا أن الأستاذ في العلاقات الدولية في جامعة القديس يوسف الدكتور إدموند شدياق يعتبر في حديث إلى “المدن” “أننا في أول مسار التطبيع، وذلك لوجود شخصية مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لديه تصور معين للمنطقة ولن يوقفه أحد، حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فترامب يريد فض حروب الشرق الأوسط والتفرغ للاستثمارات، وهو ما قدمته له المملكة العربية السعودية خلال زيارة الولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأخيرة لواشنطن، وهو ما لا تستطيع اسرائيل تقديمه”.

لكن الدوافع وحدها لا تكفي. فالعقبات البنيوية في الداخل اللبناني تبقى حاسمة. الدولة اللبنانية لا تملك سلطة مركزية موحدة قادرة على اتخاذ قرار بهذا الحجم دون توافق داخلي صلب، ووجود “حزب الله” كفاعل سياسي واجتماعي وعسكري أساسي يجعل مسألة الانخراط في الاتفاقات الإبراهيمية شبه مستحيلة. بالنسبة إلى الحزب، الصراع مع إسرائيل ليس ملفًا سياسيًا يمكن التفاوض حوله، بل هو جوهر وجوده ومبرر سلاحه. وبالتالي فإن أي حديث عن اتفاقات أو انفتاح على مسارات جديدة سيواجه معارضة داخلية قوية، إضافة إلى المزاج الشعبي الذي لا يزال بعيدًا عن قبول فكرة تطبيع أو علاقات عادية مع إسرائيل، خصوصًا في ظل ما شهدته المنطقة من تصعيد في غزة ولبنان.

العقبات الإسرائيلية والإقليمية وتباينات المقاربة اللبنانية

وفي هذا السياق، جاءت مشاركة السفير اللبناني السابق في واشنطن، ومن أبرز المشاركين في تجربة 14 آذار، سيمون كرم، في اجتماعات لجنة الميكانيزم كرئيس البعثة اللبنانية، وبصفته كمندوب سياسي، خطوة لافتة. هذا التمثيل، ولو أتى بفعل الضغوط الأميركية، يعطي انطباعًا بأن لبنان يحاول إعادة توجيه ملف التفاوض لإبعاد شبح الحرب الموسعة، حتى ولو تطوّر إطار المفاوضات ليصبح دبلوماسيًا–سياسيًا، ويؤكد وجود محاولة لإعادة بناء الثقة الدولية في قدرة مؤسسات الدولة على إدارة ملفات حساسة بعيدًا عن تأثير السلاح غير الشرعي. ورغم أن هذه الخطوة لا تعني بالضرورة فتح باب التطبيع، إلا أنها قد تشكّل مدخلًا أوليًا لإعادة تعريف طبيعة التواصل مع إسرائيل تحت مظلة الأمم المتحدة.

وحول هذا النقاش يقول السيّد حسين “إن إدخال شخصية سياسية مثل السفير كرم إلى لجنة الميكانيزم، يعني طرح ملفات تتجاوز الطابع الأمني–العسكري للجنة، وربما يفتح نقاشًا حول مستقبل العلاقة بين لبنان ودولة الاحتلال”. لكنه شدد في الوقت نفسه ” أن لبنان لن يعطي إسرائيل أكثر مما تعطيه اتفاقية الهدنة 49، ولا يدخل في أي مسار سياسي أو تطبيعي، وهو موقف يعيد ضبط سقف أي توقعات أو تأويلات قد ترافق مشاركة شخصيات سياسية أو دبلوماسية في آليات التفاوض”.

وهو ما يتفق عليه شدياق فيعتبر “أن هذا التطور يظهر بوضوح التغييرات التي تطال طابع المفاوضات، فوجود شخصية سياسية مدنية تترأس اللجنة، يفتح الباب امام التشاور في كل الأمور وليس الأمن فقط” ويضيف “ما كان من المحرمات أصبح من الضروريات لتجنب تصعيد أكبر، وهو ما بدا جليا في الغطاء السياسي الذي حصل عليه السفير كرم من الرؤساء الثلاث، وخاصة من رئيس مجلس النواب نبيه بري”.

على الجانب الإسرائيلي، لا يزال الموقف ضبابياً. فتصريحات الحكومة الإسرائيلية تعكس تناقضاً حاداً. اذ بدأ الحديث عن تعاون اقتصادي مستقبلي مع لبنان، وفي الوقت استمرت التهديدات بتوسيع الصراع، واستكمال الحروب العبثية، وكأن رئيس الحكومة بميامين نتنياهو الساعي الى زيادة رصيده في الانتخابات المقبلة يتأرجح بين المسار العسكري والمسار السياسي. ويواصل عدوانه على لبنان. وتُظهر التجربة السورية الأخيرة أن تل أبيب، رغم خوض دمشق الجديدة محادثات مباشرة، لم تقدّم أي تنازل، ورفضت الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط النظام السابق، كما استخدمت الورقة الدرزية لزعزعة الاستقرار السوري. هذا النهج يشير إلى أن إسرائيل لا تتعامل مع محيطها من زاوية التسويات المتوازنة، بل من موقع فرض الشروط الأمنية من دون مقابل سياسي.

أما إقليميًا، فيتحرك المشهد باتجاه إعادة تموضع عربي جزئي، على قاعدة المبادرة السعودية التي تفرض مسارًا واضحًا لقيام دولة فلسطينية قبل الانخراط بالاتفاقات الإبراهيمية، وهو موقف الدول العربية عامة، حتى ولو انخرطت بعضها في هذه الاتفاقات. وأيضًا، ومع بقاء إيران لاعبًا مركزيًا في الساحة اللبنانية، فإن أي تغيير جذري في علاقة لبنان بإسرائيل سيحتاج إلى تفاهمات أكبر تتجاوز قدرة بيروت وحدها.

وفي هذا السياق يقول الدكتور شدياق “ان مسار السلام وُضِع على السكة، وحل القضية الفلسطينية سيحصل وهو الأساس لأي تطبيع مع الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. اما الدولة اللبنانية فلن تذهب لأي شكل من اشكال التطبيع من خارج التوافق العربي”.

وفي ضوء ذلك، يوضح الدكتور عدنان السيّد حسين “أن لبنان يتمسّك بموقفه القائل إنه لن يدخل أي معاهدة سلام أو تطبيع إلا في إطار عربي شامل، وسيكون آخر دولة عربية تتحرك في هذا الاتجاه، خصوصًا أن السعودية لن تذهب إلى الاتفاقات الإبراهيمية قبل ضمان مسار نحو دولة فلسطينية، وهو ما ترفضه الحكومة الإسرائيلية الحالية بالكامل”. كما يذكّر “أن التجربة مع إسرائيل، سواء على الجبهة اللبنانية أو السورية، تؤكد أنها لا تلتزم بالاتفاقات”.

في المحصلة، يظهر أن لبنان، رغم حاجته العميقة إلى الاستقرار ورغبته في وقف دورات الحرب، لا يزال بعيدًا عن التطبيع مع إسرائيل والالتحاق بالاتفاقات الإبراهيمية في المدى القريب. العوامل الداخلية والإقليمية متشابكة ومعقدة، والمشهد الإسرائيلي غير مهيأ لأي تسوية، والغطاء العربي غير مكتمل، والداخل اللبناني منقسم بشدة. المشاركة السياسية في لجنة الميكانيزم قد تكون خطوة في اتجاه تغيير طبيعة المقاربة، لكنها لا تكفي لتغيير الاتجاه الاستراتيجي. سيحاول لبنان في المدى المنظور تفادي الانزلاق إلى حرب شاملة، وسط ضغوط أميركية–إسرائيلية متزايدة وضغط دولي إضافي يدفعه إلى خيارات لا يرغب بالضرورة في تبنيها بعدما فقد هامش المناورة الذي كان يمتلكه في مراحل سابقة، بانتظار لحظة إقليمية أوسع تفرض إعادة رسم التوازنات، وتفتح الباب أمام نقاش فعلي حول مستقبل العلاقة مع إسرائيل.

هل يقود المسار التفاوضي إلى بوابة الاتفاقات الإبراهيمية؟ .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print