البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية حول تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للجانب اللبناني المشارك في اجتماعات «الميكانيزم»، كان من الطبيعي أن يُحدث صدمة سياسية قوية، بعد كل الجدل الذي ساد طوال المرحلة الماضية حول إمكانية «تطعيم» الوفد العسكري بشخصية مدنية. وتخلّل هذا الجدل إصدار «حزب الله» بيان قوي النبرة، موجّه إلى الرؤساء الثلاثة، بينما الواقع يشير إلى أنّ المقصود بهذا البيان كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وهذا ما دفع بالمراقبين إلى الربط بين البيان وزيارة موفد بري النائب علي حسن خليل الأخيرة لطهران.
وجاء صدور بيان بعبدا قبل ساعة من بدء اجتماع لجنة «الميكانيزم»، ما يعني أنّ كرم كان لحظة صدور البيان في طريقه إلى مكان الإجتماع، وهو يحمل التوجيهات المطلوبة منه. كذلك صدر هذا البيان، بعد ساعات على اختتام رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا لاوون زيارته التاريخية للبنان والتي حملت عنوان «السلام»، وهي الكلمة التي ردّدها عشرات المرات في كلماته. صحيحٌ أنّ دعواته إلى السلام طاولت المجموعات التي يتكون منها لبنان، إلّا أنّها لامست في بعض جوانبها السلام العريض على مستوى المنطقة. وفي محطته النهائية في القداس الذي أقيم عند الواجهة البحرية لبيروت، قال الحبر الأعظم «إنّ الشرق الأوسط يحتاج إلى مقاربات جديدة تتجاوز الإنقسامات السياسية والدينية، وتفتح صفحة من المصالحة والسلام». وقبل ذلك كان قد دعا إلى «إزالة السلاح من القلوب». وكانت الإشارة التي أوردها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في خطاب استقبال البابا حول «أبناء إبراهيم» قد استوقفت الأوساط. ومن هنا رأى بعض المراقبين، أنّ زيارة البابا لاوون نجحت في دفع المناخ اللبناني خطوة إلى الأمام في اتجاه السلام.
لكن من التبسيط قراءة التطورات من هذه الزاوية الضيّقة فقط. فخلال الأسابيع الماضية، بلغت الضغوط الأميركية على لبنان مستويات متقدمة، إن من خلال التحذير من حرب إسرائيلية وشيكة، أو من خلال توجيه اتهامات للسلطة اللبنانية والجيش بالتباطؤ في تطبيق قرار حصر السلاح بيدها. وبلغت ذروة هذه الضغوط مع سابقة إلغاء قائد الجيش زيارته الرسمية الأولى لواشنطن. وأحدثت هذه الحادثة هزّة كبيرة في الداخل اللبناني، مع تلويح باحتمال زيادة الضغوط على المؤسسة العسكرية المعروفة بعلاقتها الممتازة تاريخياً مع المؤسسة العسكرية الأميركية. وكان واضحاً أنّ وراء «نسف» هذه الزيارة توجيه رسالة سياسية سلبية إلى السلطة في لبنان. ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة، فإنّ مشاورات مكثفة حصلت عبر القنوات الخلفية بين بعبدا وواشنطن لمعالجة الملفات العالقة. وجاءت خطوة الأمس بمثابة تتويج لهذه التفاهمات.
وحمل قرار رئاسة الجمهورية أمس ثلاث نقاط أساسية:
في النقطة الأولى، تمّ الإعلان عن مشاورات مسبقة مع الرئيسين نبيه بري ونواف سلام. والمقصود هنا هو تأكيد وجود موافقة بري. وفي المرّة السابقة ومع إعلان قصر بعبدا عن الموافقة على تطعيم الوفد العسكري اللبناني في «الميكانيزم» بوجه مدني، أصدر «حزب الله» بياناً حاداً وموجّهاً إلى الرؤساء الثلاثة، فيما المقصود كان الرئيس بري في شكل أساسي. يومها أنتج هذا البيان إستياء لدى رئيس المجلس، ما دفعه إلى إيفاد معاونه السياسي النائب علي حسن خليل إلى طهران، بعدما ساد اقتناع بأنّ البيان كُتب بحبر إيراني. وكانت مهمّة خليل تبيان حقيقة الجو السياسي لإيران، وأيضاً المستوى الذي بلغته المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية. وعاد خليل بانطباع بأنّ المسار بين طهران وواشنطن لا يزال طويلاً، كون الرئيس بري يدرك مدى التأثير الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه التفاهم بين طهران وواشنطن على لبنان.
وفي النقطة الثانية، ما بدا وكأنّه تمّ إسقاط إشارة «المفاوضات غير المباشرة» وبنحو متعمّد. ففي السابق كان كل البيانات المتعلقة باجتماعات «الميكانيزم» تتمسك بذكر المفاوضات غير المباشرة. لكن اللافت أنّ المتحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية، وصفت إجتماع الأمس بالمحادثات المباشرة الأولى منذ عقود بين مسؤولين إسرائيليين وآخرين لبنانيين، كما قالت. وأضافت أنّ الإجتماع هو محاولة أولية لوضع أساس لعلاقة وتعاون إقتصادي بين البلدين. ومن الواضح أنّ الحكومة الإسرائيلية تحاول دفع الأمور في الإتجاه الذي تأمل به، وصولاً إلى التطبيع، وهو ما توحي به في كلامها عن التعاون الإقتصادي. وهنا تأتي النقطة الثالثة من البيان، والمقصود هنا إغفال البيان الإشارة إلى مفاوضات أمنية وحدودية، تماماً كما ورد في مبادرة رئيس الجمهورية ونقاطها الخمس.
وجاء البيان الصادر عن السفارة الأميركية حول نتائج الإجتماع ليعزز الاقتناع حول الذهاب إلى منحى التفاوض السياسي وليس العسكري فقط. فهو تحدث عن تسهيل المناقشات السياسية والعسكرية، بهدف تحقيق الأمن والإستقرار والسلام الدائم لكل المجتمعات المتضررة من النزاع. وأشار إلى حوار مدني مستدام، بالإضافة إلى الحوار العسكري. أما الحكومة الإسرائيلية، فعمدت إلى رفع السقف أكثر، مع إشارتها الغامضة إلى أنّ نتنياهو سيرسل مبعوثين للقاء مسؤولين حكوميين في لبنان من أجل تعزيز العلاقات. ومعه يظهر واضحاً سعي تل أبيب إلى حشر بيروت في زاوية ضيّقة ودفع الأمور باكراً في الإتجاه الذي تريده وتعمل له.
وما من شك أنّ الإعلان عن إجتماع الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس بنتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس في مكتب رئيس الحكومة، أعطى انطباعاً حول أهمية المحادثات التي جرت. وفور انتهاء الإجتماع عمدت إسرائيل إلى ممارسة ضغوط على «حزب الله» عبر نشر «معلومات» حول قيام «حزب الله» بتصفية أربعة أشخاص «يملكون معلومات عن تورط «حزب الله» في انفجار مرفأ بيروت». وقد جاء ذلك بعد زيارة البابا لاوون المؤثرة للمرفأ ولقائه بأهالي الضحايا. وفي وقت التزم «حزب الله» الصمت إثر قرار بعبدا، فإنّ عدداً من المراقبين فسّروا هذا الصمت بأنّه نتيجة «المفاجأة» التي أصابته. ما يعني أنّه لم يكن على علم مسبق بالقرار. وبالتالي فهو كان في حاجة إلى بعض الوقت للتشاور مع طهران قبل الإعلان عن موقفه، ولكن تحت سقف عدم التصادم مع الرئيس بري.
ويبقى السؤال الذي يقضّ مضجع اللبنانيين: هل هذا يعني أننا تجاوزنا خطر الحرب؟ ليس بالضرورة، يجيب مصدر ديبلوماسي أوروبي مطلع. فالتطور على مستوى التفاوض لا يلغي مطلب حصر سلاح «حزب الله» بيد الدولة اللبنانية، وأنّه لا بدّ من التزام الحزب علناً ووفق برنامج زمني بوضع المعالجة العسكرية جانباً.
ويكشف المصدر عن أنّ هناك توجّهين داخل دوائر القرار الأميركي: الأول كان يدعو إلى معالجة ملف «حزب الله» بروية ووفق مسار متدرّج، لكي لا يتمّ دفع الأمور في اتجاه انهيار الدولة في حال تمّ تحميلها أكبر من قدراتها. ويعتقد أصحاب هذا التوجّه، وهم من الديبلوماسيين والعاملين في وزارة الخارجية، أنّه يمكن الوصول إلى تطبيق قرار حصر السلاح بالحيلة، ولو تطلّب ذلك وقتاً إضافياً. فبعد أخذ منطقة جنوب الليطاني منطقة «نظيفة»، يمكن الإنطلاق عندها في اتجاه مناطق جديدة شمال الليطاني، ومن بعدها الوصول إلى مرحلة حل التنظيم العسكري. لكن التوجّه الذي غلب كان لأنصار تنفيذ عملية عسكرية هي أقرب لجراحة. ويقول أصحاب هذا التوجّه، وهم من العسكر والأمن القومي وبعض صقور البيت الأبيض، إنّ إيران تراهن على الوقت في انتظار مستجدات تلعب لمصلحتها، وإنّها لطالما لعبت هذه اللعبة. وبالتالي، فإنّ من الأفضل ترك إسرائيل تسدّد ضربتها، شرط أن تلتزم بالخطوط الحمر التي نضعها، أي عملية عسكرية جراحية وفق ضوابط تحمي الدولة من الإنهيار ومن خلخلة ركائزها الضعيفة، أو من دفع الأوضاع الداخلية في اتجاه الفوضى.
قريباً سيلتقي نتنياهو ترامب للمرّة الخامسة في أقل من سنة. ويتأرجح موعد الزيارة ما بين 20 و27 من الشهر الجاري. ولا شك في أنّ لبنان سيحتل حيزاً من هذا الإجتماع، خصوصاً انّ نتنياهو يسعى لاقتناص ورقة إنتخابية عبر تحقيق نقاط عسكرية ثمينة في لبنان، تدغدغ الشارع الإسرائيلي. وفي هذه الحالة، يصبح مفعول ما حصل في «الميكانيزم» هو تأجيل موعد التصعيد بعض الوقت لا إلغاءه.
مرحلة اختبار النيات .