واشنطن جهَّزت كل شيء… و”السلام عليكم”!

WhatsApp-Image-2025-12-03-at-11.33.58-PM

يقف لبنان أمام خيارَيْن: إمّا القبول بـ”17 أيار مُعدَّلًا”، أي تفاهمات أمنية عميقة تؤدّي عمليًّا إلى نزع سلاح الحزب جنوبًا مقابل غطاء أميركي وضمانة لـ “صيغة لبنان” ولحصّته في الترتيبات الإقليمية الكبرى كالغاز وإعادة الإعمار وسواهما، وإمّا رفض الدعوات إلى نزع السلاح والقبول بالتفاهمات. وفي هذه الحال، لن تفعل واشنطن شيئًا لمنع الحرب المقبلة، بل إنّها ستمنح إسرائيل الضوء الأخضر لإنهاء المهمة.

إذا نجحت فعلًا “مهمة السلام” التي عمل عليها البابا لاوون في لبنان، فستتسع تردّداتها على مستوى الشرق الأوسط كله، وستكون بمفاعيلها نسخةً مصغّرةً عن المهمة التي نفذها البابا القديس يوحنا بولس الثاني، في نهاية الثمانينيّات من القرن الفائت، في أوروبا الشرقية، وأدّت إلى إسقاط المعسكر السوفياتي، وتغيير العالم كله.

اللحظة التي تمّت فيها زيارة البابا لاوون للبنان حساسة جدًّا، على أبواب حرب إسرائيلية طاحنة باتت مؤكدةً، وموعدها مرجح في الأسابيع القليلة الأولى من العام الجديد، وسيرافقها حتمًا توغّل بري لا يمكن ضبطه، وقد كشف عنه مسؤولون إسرائيليون في الأيام الأخيرة بقولهم: “لن نكتفي بالسيطرة على النقاط الحدودية الخمس، بل سنتجاوزها لنرسم حدودًا أمنية محصّنة لنا عند مجرى نهر الليطاني”. وهذا يعني أن وضع لبنان، بعد تلك الحرب، لن يكون هو نفسه القائم حاليًّا. وفي النتيجة، سيكون “حزب الله”، تحت شعار “مساندة غزّة” والتمسك بـ”المقاومة”، قد ورّط لبنان بدخول الجيش الإسرائيلي إلى أراضيه مجدّدًا. ويقول أحد المعارضين الشيعة ساخرًا: في هذه الحال، هل سيعود الحزب مجدّدًا، ربع قرن إلى الوراء، ليرفع شعار إخراج إسرائيل من لبنان وتنفيذ القرار 425؟

المعلومات التي توافرت عشية زيارة البابا أفادت بوجود تقاطعاتٍ وتبايناتٍ في آن معًا، بين إدارة الرئيس دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو، حول طريقة التعاطي مع الملفات الشرق أوسطية الساخنة، ولا سيما لبنان وسوريا وغزّة. فالحليفان يتّفقان على الأهداف المرحلية: نزع سلاح حزب الله وحماس، تأمين الحدود الشمالية للبنان وسوريا مع إسرائيل، حقّ إسرائيل في السيطرة الأمنية والرّصد في الجنوب اللبناني والجنوب السوري، وإطلاق مسارات التسوية السياسية والاستثمار الاقتصادي مع لبنان وسوريا.

لكنّ واشنطن ترى أنّ ذلك يجب أن يتحقّق بالتفاوض، وأنّه من الضروري منح لبنان وسوريا مزيدًا من الوقت لتتمكّن الحكومتان من الدخول في الأجواء الجديدة، بعدما كانت فكرة التفاوض مرذولةً لعشرات السنين. وفي اجتماعات الخريف التي عُقدت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، كان ترامب يرغب في جمع نتنياهو والرئيس السوري أحمد الشرع وتوقيع اتفاق بين الطرفين، علمًا أنّ دمشق كانت مهّدت لهذه المناخات بمفاوضات مثيرة جمعت وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الأمن القومي الإسرائيلي رون ديرمر.

لكن طموحات ترامب لم تتحقّق. وقال السوريون إنّ السبب في عدم حصول اللقاء مع نتنياهو هو أنّ الإسرائيليين بالغوا في مطالبهم في الجنوب السوري، إلى حدٍّ يصعب على دمشق أن توافق عليه.

الإسرائيليون، من جانبهم، يقولون إنَّ حزب الله في لبنان يحصل على مخزوناتٍ جديدةٍ من السلاح مصدرها سوريا. ولذلك، هم لن يغادروا مواقعهم هناك قبل إنهاء هذا الخطر أو أي خطر لاحق من الجانب السوري. وألمح بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين إلى أنَّ الجيش، في موازاة الحرب التي سيشنّها على حزب الله، قد يدخل أيضًا إلى كلّ المناطق السورية المُحاذية للحدود مع جنوب لبنان ويقوم بـ”تنظيفها”. وفي ذلك، تكون الحرب على جبهتَيْ لبنان وسوريا في آنٍ واحدٍ.

نظرة الولايات المتحدة إلى هذا المشهد مختلفة. هي تعتقد أن الحرب الكبرى سترتّب مخاطر على دولة لبنان الضعيفة، وستدفع أحمد الشرع إلى موقعٍ معادٍ بعدما أظهر حتى اليوم كلّ الاستعداد للتفاوض. وهذا الكلام قاله الأميركيون علنًا لنتنياهو. وفي الاتصال الأخير، الثلاثاء، دعا ترامب حليفه الإسرائيلي إلى التلاقي قريبًا في واشنطن بهدف إقناعه بتأجيل الضغط على “زرّ الحرب”، في لبنان وسوريا. وواضح أنّ هذا الطلب سيُلبّى. وسيُطلق ترامب وعدًا للضيف الإسرائيلي بدعمه بقوة في المفاوضات على الجبهات كافّة، لتحقيق الأهداف التي يريدها الطرفان، فلا داعي للحرب إذا كان ممكنًا تحقيقها بالتفاوض، أو بِحَدٍّ أدنى من الضربات المضبوطة.

عند هذا التقاطع، جاء التوقيت السياسي لزيارة البابا. ففي الواقع، كانت الزيارة عمليةً دبلوماسيةً فائقة الدقّة دفعت لبنان إلى طاولة الحوار، بـ”بركة” الفاتيكان، ولكن بـ”قوة” واشنطن. وفور مغادرة البابا، تمّ تعيين السفير سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني إلى الـ”ميكانيزم”، بمواصفاته المعروفة: دبلوماسي صلب، مُحامٍ عنيد، مؤسّس في حركة 14 آذار وسفير سابق في واشنطن. وسيتّسع الحضور المدني في اللجنة تباعًا، لبنانيًّا وإسرائيليًّا، على الأرجح، علمًا أن الأميركيين موجودون مدنيًّا منذ أسابيع، من خلال مورغان أورتاغوس. وبهذا، تتحوّل اللجنة تدريجيًّا إلى منصة تفاوض سياسي وأمني حقيقي. واختيار السفير كرم يبعث رسائل لا لبس فيها: بيروت مستعدّة للعب الكرة بجدّية. وتزامنًا، أعلنت إسرائيل تكليف مسؤولين بالتفاوض مع نظرائهم اللبنانيين، ليس فقط أمنيًا، بل “اقتصاديًا” أيضًا. وهذا الإعلان يُشكّلُ خرقًا هائلًا للجدار النفسي والسياسي. وهو يعني أنّ إسرائيل قبلت بـ”ملاقاة” لبنان دبلوماسيًا بدلًا من شنّ الحرب عليه، حاليًّا على الأقل.

لقد نجح ترامب، بتنسيقٍ مؤكدٍ مع الحبر الأعظم الأميركي الجنسية، في إقناع نتنياهو بأنّ أمن إسرائيل سيتحقّق بالسلام لا بالحرب في لبنان الصغير والمربك. فواشنطن، التي تخشى على “صيغة لبنان” الاستثنائية وعلى استقرار المنطقة برمّتها من حرب كبرى قد تتزامن مع تصعيد مع إيران، استفادت من زيارة البابا بشكلٍ غير مسبوقٍ لتفادي السيناريو الأسوأ. وفي عبارة أخرى، جرى “تثمير” الروحانية البابوية في مجال السياسة الاستراتيجية، وجاءت الثمار حقنًا لنهر الدماء.

والآن، ينتظر المجتمع الدولي صيغة “تفاهمات أمنية” عميقة مع إسرائيل، ربّما تشبه اتفاق 17 أيار 1983. هذا الاتفاق، الذي ألغاه لبنان تحت وطأة الضغوط الداخلية والإقليمية الرافضة (وخاصة سوريا حافظ الأسد وحلفائها). وكان يهدف إلى: نزع سلاح التنظيمات غير الرسمية، إعادة انتشار الجيش اللبناني على كامل الحدود، تطبيع الوضع الأمني عبر إنشاء “لجنة تنسيق”، أي “ميكانيزم”! وإلغاء هذا الاتفاق كلّف لبنان عشرات السنين من العذاب وعشرات الآلاف من الضحايا، والكثير من الانهيارات والكوارث والحروب الداخلية والخارجية والاحتلالات والوصايات.

اليوم، يقف لبنان أمام خيارَيْن: إمّا القبول بـ”17 أيار مُعدَّلًا”، أي تفاهمات أمنية عميقة تؤدي عمليًّا إلى نزع سلاح حزب الله جنوبًا مقابل غطاء أميركي وضمانة لـ “صيغة لبنان” ولحصّته في الترتيبات الإقليمية الكبرى كالغاز وإعادة الإعمار وسواهما، وإمّا رفض الدعوات إلى نزع السلاح والقبول بالتفاهمات. وفي هذه الحال، لن تفعل واشنطن شيئًا لمنع الحرب المقبلة، بل إنّها ستمنح إسرائيل الضوء الأخضر لإنهاء المهمة.

في الخُلاصة، البابا وترامب منحا لبنان “قُبْلَةَ الحياة” لثوانٍ معدودة. الآن، الكرة في ملعب بيروت وما تملكه من حكمة لإدارة المرحلة. فقد يكون السلام صعبًا ومؤلمًا، ولكن، إذا تمسّك لبنان الرسمي بـ “ثقافة الرفض” القديمة، سيجد نفسه بعد أسابيع قليلة وحيدًا أمام آلة الحرب الإسرائيلية، التي لن يوقفها هذه المرّة لا قداس بابوي ولا اتصال من ترامب بنتنياهو. وفي هذه الحال، “السلام على لبنان”!.

واشنطن جهَّزت كل شيء… و”السلام عليكم”! .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print