كلمتا البابا ورئيس الجمهورية…خطاب واحد بصوتين

Doc-P-1449754-639002609633947968

في كلمته الأولى في القصر الجمهوري اختصر الحبر الأعظم قداسة البابا لاوون الرابع عشر المسافة الجغرافية، التي تفصل لبنان عن محيطه والعالم، ووضعه في إطاره التاريخي كمحور استقطاب لما يمثّله هذا البلد الصغير، ورفعه إلى مصاف الدول المحورية في السعي إلى السلام العادل وإلى الاستقرار والازدهار وسط كمّ هائل من الفوضى المجبولة برائحة البارود.

وقد تلاقت كلمة البابا المعبّرة عن واقع حال العالم المتخبّط بسيل من مفردات الكراهية والحقد مع كلمة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في أبعادها المشتركة بين الواقع والمرتجى بالنسبة إلى السعي الحثيث إلى سلام مفقود، خصوصًا أن هذه كلمة “سلام” وردت في كلمة البابا عشرين مرّة.
فعلى مسافة جغرافية شاسعة بين بعبدا والفاتيكان، ارتفع صوتان بدت نبرتهما واحدة: صوت البابا وصوت الرئيس عون. كأن الرجلين، من موقعين مختلفين تمامًا، ينطقان باسم وطن واحد يبحث عن خلاصه. لم يكن الفرق في اللغة ولا في المرجعية ولا في البروتوكول، بل كان الجامع بينهما أكبر من كل التفاصيل: الإيمان بلبنان كرسالة، لا كجغرافيا فقط.

في كلام البابا كما في كلام الرئيس، بدا لبنان أشبه بفكرة كونية، بحالة وجودية يجب الدفاع عنها لأنها تتجاوز حدوده الصغيرة. كلاهما تحدّث عن لبنان كأرضٍ وُلدت لتكون مساحة حرية ولقاء وتنوّع، وكأن انهياره يعني خسارة نموذج لا يمكن تعويضه في هذا الشرق المضطرب.
واللافت أنّ الرسالتين التقتا عند جوهر واحد، وهو حماية السلم الأهلي ليس بوصفه هدنة فوق الرماد، بل عمل يومي يُبنى بالإرادة والشراكة والمسؤولية. الرئيس يطالب به من موقع الحَكم، والبابا يعزّزه من موقع الراعي، لكنّ المطلب واحد: أن يعيش اللبنانيون معًا بلا خوف، وأن يظلّ لبنان مساحة سلام، لا ساحة صراع.
ثمّة قاسم مشترك ثالث لا يقل عمقًا، وهو أن الثقة المطلقة بقدرة اللبنانيين على النهوض.  فالرئيس رأى في شعبه طاقة حياة لا تُقهر، والبابا رأى فيه شعبًا يعرف أن يولد من جديد حتى من بين الركام. وفي هذه الثقة المشتركة، بدا كأن كلمتيهما تتكاملان لتقول: لن يُكتب للبنان الموت، ما دام فيه شعب يرفض الاستسلام، وما دام للعالم مَن يُذكّره بأن هذا الوطن ليس مشروع دولة فقط، بل مشروع معنى.
هكذا، من بيروت إلى روما، من مؤسسة الرئاسة إلى الكرسي الرسولي، صدرت الرسالة نفسها: لبنان ليس بحاجة إلى معجزة جديدة، بل إلى أن يؤمن بذاته.
إذًا، ففي كلمتَي الرئيس والبابا، يتجلّى هذا القاسم المشترك الواضح والعميق، يقوم على ثلاثة محاور مترابطة تُشكّل جوهر الرسالة التي أرادا إيصالها للبنانيين وللعالم:
أولًا، لبنان رسالة لا مجرد جغرافيا. فالبابا ثبّت هذه الفكرة حين تحدّث عن لبنان كلغة رجاء، وعن شعب قادر دائماً على النهوض، وعن بلد يُمثّل نموذجًا لا بديل عنه في المنطقة، في حين قدم الرئيس عون قدّم لبنان بوصفه وطناً فريداً في توازنه الدقيق، في عيشه المشترك، في مساواة أبنائه المختلفين.

فالقاسم المشترك بين الكلمتين أن كلاهما يؤكدان أن لبنان ليس دولة بين دول، بل فكرة عالمية – رسالة في الحرية والتعددية، وإن سقط هذا النموذج لن يكون له بديل.
ثانيًا، ضرورة حماية السلم الأهلي وصناعة السلام، فدعا البابا إلى جعل “فاعلية السلام” أولوية، وإلى السعي للمصالحة وتنقية الذاكرة، وعدم الاستسلام للانقسامات. أمّا الرئيس عون فتحدث عن سلام لبنان مع ذاته ومع محيطه، وعن مسؤولية العالم في حماية نموذج التعايش. وفي ذلك قاسم مشترك أيضًا، إذ أن كلا الخطابين يضعان السلام في قلب هوية لبنان، لا كهدنة، بل كعمل يومي، وكجهد سياسي وأخلاقي ومسؤوليّة جماعية.
ثالثًا، الإيمان بقدرة اللبنانيين على النهوض رغم الجراح، حيث رأى البابا في اللبنانيين شعباً لا يُهزم، شعباً يعرف أن “يولد من جديد”، وأن يبدأ دائماً من الصفر بقوة رجائه، في حين استحضر الرئيس عون الإيمان والرجاء والقداسة وجذور لبنان الروحية، مؤكداً أن اللبنانيين “لن يموتوا ولن يرحلوا ولن يستسلموا”. والقاسم: المشترك بينهما إيمان مطلق بأن قوة لبنان تكمن في شعبه—صبره، صموده، وطاقته التي تعيد بناء الحياة فوق الركام.
أما القاسم المشترك الأوسع بين الكلمتين فهو أن كلاهما يشكّلان بياناً دفاعياً عن فلسفة لبنان، لبنان القائم على تعدّد هوياته، وحدة شعبه، دوره الحضاري، رسالته في الشرق، وقدرته على اجتراح السلام والنهوض وسط التحديات.
هو خطاب واحد بصوتين: صوت رئيس دولة يحمي النموذج، وصوت رأس الكنيسة الذي يباركه ويمنحه شرعية روحية عالمية.

كلمتا البابا ورئيس الجمهورية…خطاب واحد بصوتين .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print