تزداد وتيرة ابتعاد الرئيس جوزاف عون عن الخطّ البياني لخطاب القسم بشكل يجعل كلّ القوى السيادية مضطرة لمراجعة حساباتها في التعامل مع العهد في ظلّ الإصرار المستحكم على إعطاء الأولوية المطلقة لاسترضاء “حزب الله” على حساب سائر اللبنانيين، بدءًا من معضلة السلاح غير الشرعي وليس انتهاءً بالإقصاء البروتوكولي لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع من لقاء البابا لاوون في القصر الجمهوري، مع ما يعنيه استبعاد رئيس أكثر الأحزاب المسيحية تمثيلًا عن لقاء المرجعية المسيحية الأولى في العالم.
استفاد الرئيس عون من حالة الإجماع التي حظي بها لدى اللبنانيين، باستثناء “حزب الله” وكسب مساحة واسعة للعمل السياسي المريح وحصل على فترة سماح طويلة من مختلف القوى، وكان الاستهداف الأول له من قبل “الحزب” على شكل حملات قدح وذمّ شخصية وسياسية، ومع ذلك، حافظ على محاولته حلّ معضلة السلاح غير الشرعي بالحوار، وكانت هذه منهجية أفشلها “الحزبُ” علانية من خلال خطاب قياداته المعلن الرافض قطعيًا لأيّ شكلٍ من أشكال تسليم السلاح أو حصره بيد الدولة.
وبدلًا من اتباع قواعد عمل الدولة تجاه ميليشيا متمرّدرة عليها، أسرف الرئيس عون في مراعاة “حزب الله” وعكس سياساته هذه على الجيش وقيادته، حتى أوصل الحال إلى قطيعة تاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية، كان من تداعياتها إلغاء زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن وما تلاها من تأثيرات سلبية لا يبدو أنها ستتوقف عند الوضع الراهن والأرجح أنه ستكون لها نتائج غير متوقعة.
رفع الرئيس عون شعار ضرورة مراعاة مشاعر “حزب الله” وبيئته وعدم استفزازها في قضية السلاح، ورفض نشر تقارير مفصّلة عن إنجازات الجيش جنوب الليطاني أو نشر توثيق لتفكيك المواقع والأنفاق لإطلاع الرأي العام المحلي والعربي والدولي على جدية خطوات الدولة اللبنانية في هذا الاتجاه، بعكس ما نصح به الموفد الأميركي توم برّاك، لكن بعد الأزمة مع واشنطن، اضطرّ العماد هيكل لتنظيم جولة في الجنوب لتظهير بعض ما أنجزته المؤسسة العسكرية، وهي الجولة المتأخرة التي قد لا يكون لها تأثير أو مفعول في ردّ المخاطر عن لبنان الدولة والشعب على حدّ سواء.
لماذا يصرّ الرئيس عون على إحراج حلفائه الذين التفوا حوله بعد خطاب القسم، ولماذا تستبعدهم دوائر القصر الجمهوري ولماذا أصبح “حزب الله” الحزب المدلّل عند فخامته؟
لقد سمحت شهور الحوار لـ “الحزب” باستعادة قواه للاستقواء على اللبنانيين، وليس على العدو الإسرائيلي، لا بل أطنب أمينه العام في إعطاء الأمان للمستوطنين، بينما ما زالت عقيرته تلعلع تهديدًا ووعديدًا تجاه الدولة وكل من يدعو لحصرية السلاح غير الشرعي.
تموضع الرئيس عون في مساحة السماح السياسية التي تشكلت نتيجة القوى السيادية على العهد لعدم تضييع الفرصة على لبنان، لكن ما يجري يأخذ البلد إلى جرف الجحيم حرفيًا، فمراعاة الرئيس لـ “الحزب” لن تنتهي بأزمة مع واشنطن، بل ستتحوّل أزمةً وطنية داخلية، لأن رئاسة الجمهورية تتجه بشكل متسارع لتصبح في موقع الاصطفاف مع “حزب الله” على حساب بقية اللبنانيين.
فهل يريد الرئيس عون أن يكون فعلًا لحود الثاني أو عون الثاني؟
هل علينا أن نصدِّق ما قاله نائب “حزب الله” حسن فضل الله عن الاتفاق المكتوم مع قائد الجيش قبل أن يصير جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، وهو الأمر الذي لم يصدر عن قصر بعبدا أيّ نفي له رغم خطورته وإحراجه؟
لقد احتفل الرئيس عون بزيارة البابا لكنه ربما غفل عن رسالته التي يمكن اختصارها بأن لبنان يريد السلام، فلا يمكن لبلدنا أن يحيا على منطق الحروب وبدون السلام لا عبور إلى الاستقرار، وبوجود السلاح غير الشرعي لا رجاء لنجاة لبنان من إعصارٍ إذا بدأ سيطيح أركان البلد، وربما نجد العالم يسلِّم لنتنياهو بالاستيلاء على الجنوب كما سلّمت الدول باستيلاء روسيا على مساحات هائلة من أوكرانيا مع فارق الظروف.
أمام هذا الواقع، ومع إسقاط الرئاسة فرصة التجاوب مع مطلب اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي بضرورة استعادة الدولة دورها وإنهاء ظاهرة السلاح غير الشرعي، ستجد القوى السيادية نفسها مضطرة لخوص مواجهة سياسية للمرة الأولى مع العهد إذا لم يستدرك صاحبه هذا الانحراف الخطر عن خطاب القسم.
المواجهة تقترب بين عون ودعاة الدولة .