في حياته النسكية المسكونة بالصمت العميق والتأمل المتواصل، ليلًا ونهارًا، لم يخطر على بال الراهب اللبناني شربل مخلوف المنقطع عن العالم وعن شهواته وملذاته وبهرجته وضوضائه وصخبه أن رأس الكنيسة الكاثوليكية، سيزور ضريحه بعد 128 سنة من موته، وسيطلب منه أن يتشّفع لدى باري البرايا، وقبل عيد الميلاد بأيام، لكي يحفظ فاحصُ القلوب والكلى وخالق الأرض والسموات لبنانَ وشعبه، وأن يبقى هذا الوطن الفريد بتنوعه وتناقضاته نموذجًا يُحتذى في تعايش أبنائه على رغم خلافاتهم الموسمية، وعلى رغم عدم توافقهم على رؤية إنقاذية واحدة، وعلى رغم عدم تشاركهم في عباداتهم وصلواتهم وابتهالاتهم، وعلى رغم عدم سعيهم إلى تظهير ما يجمعهم في الشكل المرتجى.
عندما يسلك البابا لاوون الرابع عشر طريق عنايا في موكبه الرسمي قاصدًا دير مار مارون، حيث ضريح القديس، الذي شعّ منه النور الإلهي، لفتته حتمًا لهفة الجموع التي انتظرته منذ ساعات الفجر، وبالأخصّ أهالي البلدات المسلمة المجاورة للدير، الذين يعتبرون أن القديس شربل هو قديس عابر للطوائف والأديان والحدود الجغرافية. فهو لمحمد وحسين ومعروف تمامًا كما هو لمارون ومتري والياس.
قد يكون من الصعب علينا أن نعرف حقيقة ما سيخالج رأس الكنيسة من شعور وأحاسيس عندما يجد نفسه وجهًا لوجه أمام هذا القديس، الذي رفض حتى رؤية وجه أمه يوم جاءته زائرة ومتلهفة، ولم يرَ في حياته سوى صورة المسيح والعذراء مريم ومار يوسف.
ففي لحظات سريعة لا بدّ من أن يمرّ شريط حياة هذا القديس في بال رأس الكنيسة، مع ما تحّلى به من فضائل رهبانية مستمدّة من اختبارات من سبقوه من رهبان قديسين عاشوا في جبال لبنان، متحدّين غضب الطبيعة واضطهاد الطامعين، فحافظوا على ايمانهم ومعتقداتهم وتراثهم وثقافتهم.
فالقديس شربل، وهو مثلنا جميعًا، كتلةٌ من لحم ودم وأحاسيس ومشاعر إنسانية، حمل صليبه وتبع المعلم، فأفرغ ذاته من كل ما هو أرضي وغاص في قلب الله الواحد، فعاش وحيدًا مع الوحيد طيلة حياته الرهبانية، وبالأخص في حياته النسكية، حيث انصرف بكليته إلى عيش الانجيل بالصلاة والعبادة والتأمل والعمل اليدوي وقهر الذات والتقرّب من الفادي حتى الامحاء.
ليس حدثًا عابرًا أن يقف رأس الكنيسة الكاثوليكية أمام ضريح راهب لبناني بسيط، عاش مغمورًا في الحقل والصلاة، وانطفأ جسديًا كي يضيء روحًا. فزيارة البابا لاوون الرابع عشر لعنايا ليست زيارة بروتوكولية ولا محطة على جدول أعمال ديبلوماسي، بل هي اعتراف عالمي بأن في هذا الجبل، في هذا الدير، في هذا الضريح الصامت، كنزًا روحيًا لا يصدأ، وسراجًا وُضع على منارة كي يضيء لا للبنان وحده، بل للعالم بأسره.
أن يزور البابا ضريح مار شربل يعني أوّلًا أن الكنيسة، بكل ثقلها التاريخي واللاهوتي، تنحني أمام سرّ قداسةٍ لم تصنعها لجان الفاتيكان، بل صنعها الله نفسه من خلال النِعم والعجائب والشفاءات التي فاضت من عنايا إلى أقاصي الأرض. ويعني أيضًا أنّ رأس الكنيسة، الذي يحمل هموم العالم على كتفيه، أراد أن يودِع هذه الهموم عند قدمي قديسٍ يعرف أن يصمت مع الباكين، ويصلي مع الخائفين، ويرافق المتألّمين في أعمق جراحهم.
ويعني كذلك أن البابا رأى في مار شربل صورة الراهب الذي صار وطنًا. وطنٌ خرج من صومعته الصغيرة ليُصبح ملجأً للمسلمين كما للمسيحيين، للقريب كما للبعيد، للفقير كما للغني، للمؤمن كما للمتردد. ففي زمن تتكاثر فيه الجدران، يُعطي شربل للعالم أصدق مثال عن قداسة لا تعرف الحدود ولا الانقسامات.
زيارة البابا تعني أيضًا أن الكنيسة تريد أن تقول للبنانيين، أمام ضريح قديسهم الأعظم:
لقد أعطاكم الله شربل فهل أنتم مستعدون لأن تعطوا بعضكم البعض شيئًا من صمته؟ شيئًا من طهارته؟ شيئًا من تواضعه؟ وكأن رأس الكنيسة يهمس لهم: هذا الذي في ضريحه هو واحد منكم. حمل ضعفكم وتحول قوة. حمل فقركم فأضحى أغنى الأغنياء. حمل صمتكم وصار صراخًا في وجه الظلم والمرض واليأس. فهل تتعلمون منه كيف تصنعون لبنانًا جديدًا؟
ثم إنّ زيارة البابا لضريح مار شربل، قبل أيام من عيد الميلاد، تحمل معنى آخر لا يقلّ عمقًا، وهو أن هذا العالم المليء بالضجيج يحتاج اليوم إلى رائحة البخور المتصاعد من عنايا، وإلى السكينة التي تتسلّل من صومعة مظلمة كانت فيها الدنيا تغيب ليشرق الله وحده.
هي زيارة تقول للبنان إنّ قديسه لم يعد ملكه وحده. وتقول للفاتيكان إنّ صومعة في جبل صغير تستطيع أن تهزّ أبواب السماء. وتقول للعالم إنّ القداسة ما زالت ممكنة، وإنّ الله لا يزال يختبئ في أماكن لا تخطر على بال بشر.
ولعلّ أجمل ما في زيارة رأس الكنيسة إلى ضريح مار شربل أنها تشبه زيارة ابنٍ عاد إلى بيت أبيه، ليخبّئ بين يدي القديس العجوز أسرار العالم، وهموم البشر، وأحلام الشعوب، وخصوصًا أوجاع اللبنانيين الذين ينتظرون معجزة، معجزة لا تأتي من السماء فقط، بل من قلوب تتغيّر.
وبعد هذه الزيارة سيدرك البابا لاوون الرابع عشر لماذا جذبه هذا الضريح بالذات، ولماذا وجد قلبه يخشع أمام صمت راهب مات منذ أكثر من قرن. لكنّه بالتأكيد شعر، كما يشعر كل زائر لعنايا، بأن القوة هنا ليست في الحجر، بل في ذاك القلب الذي توقّف ليحيا العالم. ربما سفهم البابا، في تلك اللحظة، أن زيارة ضريح مار شربل ليست محطة روحية فحسب، بل هي إعلان صامت بأن الله لا يزال يحرس لبنان بقديسيه، حتى وإن تخلى اللبنانيون عن بعضهم البعض، وحتى وإن تاهت دولتهم وارتبك قادتهم وضاعت البوصلة.
وحده شربل يعرف أن يجمع لبنان في حضن. يجمع المسلم الذي يعلّق صورته في بيته طلبًا للشفاء، والمسيحي الذي يضع شمعة أمام ضريحه كل مساء، والمغترب الذي يحمل زيارته بركة في حقيبته،والمريض الذي يراه آخر أمل، والمنكسر الذي يخطّ اسمه على الورق ويودعه في الصندوق أمام الضريح.
لذلك، حين ينحني رأس الكنيسة أمام قديس لبنان، كأنه ينحني أمام رسالة هذا الوطن نفسه. أن يكون جسرًا لا خندقًا، لقاءً لا فُرقة، نورًا لا ظلامًا. وأن يظلّ، مهما اشتدت العواصف، أرضًا يعرف الله كيف يختار منها قديسيه، وكيف يكتب على ترابها تاريخًا لا يمحوه الزمن.
من ضريح مار شربل، سيخرج البابا وفي قلبه صلاة، ربما لم ينطق بها علنًا، لكنها ارتفعت في داخله كأنها رجاء: “يا رب، احفظ لبنان، ذاك البلد الذي يخبئ في جراحه قديسون، وفي ضعفه قوة، وفي ضيقه معجزات.”
البابا والقديس…وجهًا لوجه .