لبنان البابا لا يشبه لبنان الخميني والخامنئي

لبنان-البابا

لم تكن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان عام 1997 مجرّد حدث كنسي، بل محطة تاريخية أعادت التأكيد على طبيعة الهوية اللبنانية: لبنان الإنسان والحرية، لبنان الوطن النهائي، لبنان التعددية والشراكة. فالبابا كان ينوي زيارة لبنان منذ عام 1994، إلا أن التبادل الدبلوماسي بين الفاتيكان وإسرائيل أثار حملة تخوين من قبل الأصولية الشيعية الإيرانية ضدّ الفاتيكان، ما أدى إلى تأجيل الزيارة خشية من أعمال أمنية محتملة. ثلاث سنوات إضافية من الاتصالات الدبلوماسية كانت ضرورية كي تتحقق الزيارة، وجاء يوحنا بولس الثاني عام 1997 ليطلق عبارته التي رافقت لبنان إلى اليوم: “لبنان أكثر من وطن… إنه رسالة”.

إن لبنان البابا لا يشبه لبنان الخمينية، لأننا أمام ثقافتين متناقضتين تمامًا: الأولى تنطلق من الإنسان، وترى فيه أساس الوجود في هذا الكون ومحوره، وتجعل كل شيء في خدمته؛ والثانية تستخدم الإنسان كأداة موت، ولا تعطي لحياته أي وزن. البابا والكنيسة الكاثوليكية يضعان الإنسان في قلب كل شيء: الإنسان في كل زمان ومكان، الإنسان بوصفه تجسيدًا لصورة الله، كرامته لا تُمس، وحريته أساس الوجود الاجتماعي والسياسي. الإنسان يعلو ولا يُعلى عليه، والسياسة تفهم بوصفها وسيلة لتأمين بيئة مستقرة تتيح له أن يعيش في أمن وحرية وازدهار، بعيدًا من الحروب والفوضى والعصبيات والانقسامات.

هذه الرؤية اللاهوتية – الإنسانية تتناقض جذريًا مع نظرة “حزب الله” إلى الإنسان. فـ “الحزب” يرى الفرد جزءًا من مشروع عقائدي قتالي، لا غاية في ذاته. الثقافة الخمينية التي يستند إليها “حزب الله” تقدِّم الحرب على الإنسان، والقتال على الحياة، وما يسمى “الشهادة” على الكرامة الفردية، على حساب قدسية الإنسان ومعنى حياته. وبينما ترتكز رؤية البابا على السلام بوصفه المدخل لضمان أمن الأفراد والجماعات وحقوقهم، يبني “حزب الله” مشروعه على الحرب المستمرة، وعلى منطق الصراع المفتوح بلا أفق، وعلى فكرة “الثورة العنفية الدائمة” التي تريد إعادة الزمن إلى مرحلة لا تشبه العالم المعاصر ولا تحترم تطلعات الإنسان الطبيعية. يرفع شعارات براقة حول حقوق الشعوب، لكن مضمونها لا يمت إلى الحقوق بصلة، بل يتغذى من الحرب الدائمة والموت.

صحيح أن لكلّ من الفاتيكان والنهج الخميني بعدًا “أمميًّا”، لكن الفارق بينهما جوهري:

– الأممية الفاتيكانية تقوم على أولوية الإنسان في هذا العالم، لكنها تتجسّد في دول مستقرة تحمي كرامة شعوبها وأمنهم وحرياتهم، وتنشر ثقافة السلام. صحيح أن الهدف الإنساني عابر للحدود، لكن تحقيقه يستلزم حكمًا وحتمًا وجود دول وحدود تحفظ الاستقرار وتؤمِّن البيئة الآمنة للإنسان.

– الأممية الخمينية تقوم على أولوية الحرب، عبر مشروع عقائدي عابر للحدود يهدف إلى زعزعة الدول وإضعاف المجتمعات، ويجعل من الاستقرار والسلام عدوًا أول.

ولذلك، حين يتحدّث “حزب الله” عن “حقوق الإنسان” أو “العيش المشترك” أو “السيادة”، فإنه يستخدم لغة لا علاقة لها بواقعه وممارساته ونهجه. فـ “الحزب” هو أول من ضرب العيش المشترك بالسلاح غير الشرعي، وأول من قوض سيادة الدولة وفرض ازدواجية الحكم بين دويلة فعلية ودولة شكلية، وأول من تسبّب بتراجع حضور المسيحيين بفعل انعدام الاستقرار. وكلّ من تحالف معه من المسيحيين شارك في ضرب القضية المسيحية التي جوهرها دولة مستقرة ومزدهرة، لا دويلة سلاح تهيمن على قرار الشرعية وتعزل لبنان عن العالم.

بين “لبنان الرسالة” الذي بشر به البابا في النصف الثاني من القرن الماضي، و”لبنان العنف” الذي نشأ تحت إدارة “حزب” الله منذ عام 2005، مسافة حضارية لا تُجسَر. فلبنان ما قبل تمدّد مشروع الممانعة بفروعها المختلفة كان لبنان الحضارة والانفتاح والتفاعل والازدهار، وكان يختصر في عبارة “سويسرا الشرق”. أما لبنان الخمينية والخامنئية فهو لبنان الحروب والأزمات والاغتيالات وتعطيل الدولة والفوضى المستمرة.

إنه صراع هويتين، صراع ثقافتين، صراع حضارتين، صراع نظرتين إلى الإنسان:

– نظرة تقول إن الإنسان قيمة مطلقة لا تُمس، وتتلخص في قدسية الإنسان ضمن ثقافة حياة.

– ونظرة تعتبره وقودًا لمشروع عسكري عقائدي وقتال دائم، ضمن ثقافة موت.

من هنا، حين يرسل “حزب الله” رسالة إلى البابا، فهي لا تعكس حقيقة تفكيره وممارساته، بل محاولة تضليل مكشوفة. فـ “الحزب” هو الجهة التي أساءت إلى الوجود المسيحي وإلى استقرار لبنان، وإلى مشروع الدولة. إن بقاء المسيحيين، بل كل اللبنانيين من مؤمنين وغير مؤمنين، يرتبط بوجود ببيئة مستقرة في ظل دولة فعلية، وهذه البيئة لا يمكن أن تتوافر في ظلّ سلاح خارج الدولة ومشروع يضع الحرب قبل الإنسان.

لذلك، لا يمكن أن يلتقي بابا المسيحية مع خميني وخامنئي إيران، ولا يمكن للبنان الرسالة أن يشبه لبنان “الحزب”. فالصراع هو بين من يريد إنسانًا حرًّا في دولة فعلية مستقرة ووطن نهائي، وبين من حوّل الإنسان إلى آلة قتل والدول إلى ساحات فوضى.

لبنان البابا لا يشبه لبنان الخميني والخامنئي .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print