المحور يتفكك: هل الحوثيون يقودون التمرد ضد طهران؟

الحوثيون1

تواجه طهران لحظة فارقة في تاريخ مشروع نفوذها الإقليمي؛ إذ تتوالى الإشارات من داخلها قبل خارجها إلى أن البنية التي قامت عليها فكرة “محور المقاومة” لم تعد كما كانت. فالمسؤولون الإيرانيون أنفسهم يعترفون اليوم بأن بعض القوى التي شكلت لسنوات طويلة أذرعاً رئيسة للسياسة الإيرانية بدأ يتحرر من قبضة المركز، ويتصرف وفق معادلات محلية جديدة لا تتطابق بالضرورة مع أجندة طهران.

هذا التحوّل لا يأتي في سياق تقليدي من الخلاف الداخلي؛ بل في سياق يشهد فيه الإقليم أكبر عملية إعادة توزيع للنفوذ منذ عقدين، وسط تراجع واضح في قدرة إيران على الضبط، والتمويل، والتوجيه والردع.

اليمن خارج الحسبة

يقدم الملف اليمني الصورة الأكثر وضوحاً لهذا التحول. فالحوثيون الذين مثلوا لأعوام طويلة “البوابة الذهبية” لإيران على البحر الأحمر، باتوا اليوم قوة بعيدة عن السيطرة المباشرة. وذكرت صحيفة “التليغراف” البريطانية أن مسؤولين إيرانيين أقروا بتراجع قدرة طهران على ضبط وكلائها، وأن الحوثيين باتوا يتصرفون خارج الإيقاع الإيراني التقليدي، وهو ما عبر عنه أحد كبار المسؤولين بالقول: “الحوثيون تمردوا منذ فترة، ولم يعودوا يصغون لطهران كما كانوا”.

فالهجمات الحوثية على الممرات البحرية العالمية، وتوسيع هامش التصعيد في البحر الأحمر، والتحركات السياسية الداخلية، جميعها باتت تدار انطلاقاً من حسابات يمنية ذاتية، لا من تعليمات تأتي من طهران. لقد نجح الحوثيون، عبر الحرب في غزة، في بناء مشروع سياسي وإعلامي خاص بهم، يعزز مكانتهم كقوة إقليمية ناشئة، ويمنحهم القدرة على اتخاذ المبادرة دون العودة إلى الراعي الإيراني.

بالنسبة لإيران، فإن تمرد الحوثيين يضرب آخر نقطة ارتكاز ثقيلة في خريطة نفوذها، خاصة بعد الضربات المتتالية التي تلقاها حلفاؤها في جبهات أخرى.

عراق متململ

العراق، الذي كان دائماً الساحة الأكثر رسوخا للنفوذ الإيراني منذ العام 2003، يشهد هو الآخر تغيراً ملحوظاً. فوفق المسؤولين الإيرانيين، هناك مجموعات مسلحة تتصرف اليوم كما لو أن إيران لم تكن يوما على صلة بها. هذا التوصيف يعكس فجوة حقيقية بين الجيل القديم من الفصائل الذي بقي ملتزماً بمنظومة الولاء التقليدي، والجيل الجديد الذي يرى نفسه لاعباً وطنياً له أولويات ميدانية تختلف عن الحسابات الإقليمية.

الفصائل العراقية باتت تعيد تعريف علاقتها بطهران بناء على ثلاثة عوامل أساسية، ضغط الرأي العام المحلي، صراع القيادات الداخلية، وتبدل البيئة الإقليمية. ومع تراجع التمويل الإيراني وتزايد الحساسيات الطائفية والسياسية في بغداد، لم تعد طهران قادرة على فرض الإيقاع ذاته الذي حكم العلاقة طوال العقدين الماضيين.

تراجع المحور

لم يكن فقدان السيطرة على الحوثيين والفصائل العراقية مجرد حدثين منفصلين؛ بل جزءاً من مشهد أوسع يتسم بانكماش نفوذ إيران في ساحات أساسية. فحزب الله، الركيزة الأقدم والأقوى لإيران، تلقى ضربات إسرائيلية أضعفت بنيته القيادية وأفقدته الكثير من قدرته على المناورة الإقليمية. أما حركة حماس، فمحاصرة في غزة إلى حدود الشلل بفعل الحرب الطويلة، وكذلك حركة الجهاد الإسلامي، وهو ما جعل التواصل العملياتي مع طهران أكثر تعقيداً ومحدودية.

وفي سوريا، لم تعد الساحة منصة نفوذ مريحة كما كانت؛ بل عبئاً أمنياً واقتصادياً على إيران، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد. أمام هذا التراجع الشامل، كانت إيران تحتاج إلى ورقة يمنية قوية، لكن الحوثيين اختاروا السير في طريق مغاير، ليتركوا طهران أمام واقع استراتيجي أكثر هشاشة.

ما بعد الوكالة

التحولات الجارية لا تعني انهياراً فورياً لمحور إيران، لكنها تشير إلى أفول مرحلة التوجيه المركزي التي ميزت العلاقات بين طهران ووكلائها لسنوات. القوى المحلية اليوم من الحوثيين إلى بعض الفصائل العراقية تتحرك وفق أولوياتها الخاصة، وتبحث عن نفوذ مستقل داخل دولها وإقليمها، حتى لو تعارض ذلك مع تعليمات الحليف الإيراني.

إزاء هذا الواقع، يتجه الشرق الأوسط نحو نموذج جديد، نموذج القوى المحلية ذات القدرة التفاوضية المستقلة. إيران ستظل لاعباً أساسياً، لكنها لن تستطيع إدارة الشبكات المسلحة والسياسية بذات الهيمنة القديمة. ما تشهده المنطقة هو انتقال تدريجي من محور تقوده طهران إلى شبكة من القوى المتحالفة مع طهران، ولكن غير منصاعة لها بالكامل.

هذا التغير سيعيد رسم خرائط الصراع والتحالف في السنوات المقبلة، ويجبر إيران على إعادة هندسة استراتيجيتها، وربما القبول بدور أقل مركزية وأكثر مرونة.

المحور يتفكك: هل الحوثيون يقودون التمرد ضد طهران؟ .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print