رودولف هيكل أول ضحايا الغضب الأميركي على لبنان

1131259-72135896

هذه البرودة في العلاقة لا تقتصر على ملف السلاح. ففي المحطات الإقليمية والدولية الأخيرة، لوحظ تهميش لبنان في أجندة واشنطن مقارنة بدول أخرى. في قمم عربية ودولية، عقدت الإدارة الأميركية لقاءات مع قادة من دول كانت لأعوام على خلاف معها، بما في ذلك القيادة السورية الجديدة، بينما لم يحظَ الرئيس اللبناني بلقاءات جدية. هذا التباين يقرأه دبلوماسيون أوروبيون على أن واشنطن باتت أكثر اقتناعاً بجدوى تغيير سلوك أنظمة كانت خصماً سابقاً، من اقتناعها بقدرة لبنان الحالي على الفكاك من قبضة المحور الإيراني.

تجمع مصادر أميركية مواكبة للملف اللبناني على أن قرار إلغاء زيارة قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل إلى واشنطن هو تطور نوعي في مقاربة الولايات المتحدة للبنان وجيشه ولملف سلاح “حزب الله” عموماً، وهو الأول بحق قائد للجيش اللبناني. فالقرار الذي اتخذ قبل ساعات قليلة من موعد سفر هيكل عد في تلك الأوساط “صفعة قاسية” للسلطة التنفيذية في بيروت، ورسالة مباشرة بأن مرحلة التساهل مع الأداء اللبناني قد انتهت.

فمنذ عام 2008، مولت الولايات المتحدة تسليح الجيش اللبناني وتجهيزه بما يقارب 4 مليارات دولار، ورسخت علاقة خاصة مع المؤسسة العسكرية، عدتها ركيزة الاستقرار في بلد منهك سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وخلال هذه الأعوام، حافظت واشنطن، على رغم نفوذ “حزب الله” المتنامي، على قاعدة ثابتة: دعم الجيش أفضل من ترك الفراغ للميليشيات.

وأخيراً، وافقت إدارة الرئيس دونالد ترمب على حزمة مساعدات أمنية كبيرة بقيمة 230 مليون دولار للجيش والقوى الأمنية، مع ربط واضح بين استمرار الدعم والتقدم في ملف نزع السلاح. لكن الأميركيين، وفق مصادرهم، فوجئوا بأن الإنجاز الملموس على الأرض أقل بكثير من الوعود: الحزب لا يزال يحتفظ بمخازن أساسية، وإسرائيل لا ترى تغييراً جذرياً في بنيته العسكرية، فيما الجيش يرفض إجراءات “مزعجة شعبياً” مثل اقتحام منازل خاصة أو الكشف العلني عن مخازن محددة.

سابقة لم تحصل من قبل

للمرة الأولى منذ بدء هذه الشراكة، تلغى زيارة رسمية لقائد الجيش اللبناني إلى العاصمة الأميركية. كان مقرراً أن يلتقي العماد هيكل مسؤولين كباراً في وزارة الدفاع (البنتاغون)، وأعضاء نافذين في الكونغرس، وفي مقدمهم السيناتور ليندسي غراهام، إلى جانب حفل استقبال رسمي في السفارة اللبنانية لدى واشنطن. إلا أن قراراً من دوائر الكونغرس والإدارة قضى بإلغاء اللقاءات، مما دفع هيكل إلى التراجع عن السفر برمته.

في بيروت، ساد صمت رسمي لافت. مصادر مقربة من الجيش نقلت عبر الإعلام اللبناني أن المؤسسة العسكرية “تنفذ الأوامر السياسية وما يطلب منها”، مذكرة بأن الجيش سبق أن أصدر في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري بياناً بلهجة أشد تجاه إسرائيل مما ورد في البيان الأخير المتعلق بحادثة الـ”يونيفيل”، متسائلة: فماذا تغير اليوم؟ هذه المصادر شددت على أن هم الجيش وحدة الوطن، وأن المؤسسة ليست لفئة ضد فئة، في إشارة إلى رفض تحميله وحده كلفة المأزق السياسي – الأمني المتعلق بسلاح الحزب.

3 أسباب وراء التطور الأخير 

بحسب مصادر أميركية مطلعة، تتلخص خلفيات القرار الأميركي في ثلاث نقاط رئيسة: البيان الأخير للجيش حول الجنوب الذي حمل إسرائيل مسؤولية الخرق والتصعيد على الحدود، واصفاً إياها بالعدو ومتجاهلاً أي إشارة لدور “حزب الله”. أداء الجيش في خطة حصر السلاح، حيث ترى واشنطن أن الجيش لم يبدِ المبادرة المطلوبة في تطبيق التوصيات، خصوصاً لجهة تفتيش الممتلكات الخاصة بحثاً عن السلاح غير الشرعي، وهي نقطة تقول مصادر غربية، إن الجيش “رفضها بشكل متكرر”. بالنسبة لواشنطن، هذا الرفض غير مفهوم في ضوء استمرار وجود مخازن سلاح للحزب، بعضها، كما أظهرت غارات إسرائيلية أخيرة، يقع بالقرب من مراكز للجيش نفسه في الجنوب. والاشتباه بتراخ أو تغطية لسلاح الحزب، إذ أكدت تقارير إسرائيلية وغربية أن الجيش يغطي انتشار “حزب الله” في الجنوب، ولا يتعاطى بجدية مع مهمة نزع سلاحه. هذه التقارير ذهبت أبعد من ذلك، ملمحة إلى اختراقات داخل المؤسسة العسكرية أو إلى “تنسيق ميداني ضمني” في بعض المناطق.

الخطأ الاستراتيجي

إلى جانب هذه العناصر، تشير مصادر أميركية إلى معطيات سياسية إضافية زادت التوتر: منها أن العماد هيكل، في آخر جلسة لمجلس الوزراء، طلب عملياً وقف أو تجميد خطة حصر السلاح إلى حين “وقف الاعتداءات الإسرائيلية”، وتمسك بإبقاء التقرير الشهري الأخير للجيش حول تقدم الخطة سرياً من دون نشره للرأي العام.

في واشنطن، قرئ ذلك كإشارة إضافية إلى أن الجيش يساير منطق ربط تنفيذ التزامات لبنان بوقف الخروق الإسرائيلية، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة التي تشدد على وجوب حصر السلاح بيد الدولة بمعزل عن سلوك إسرائيل، على أن يعالج ملف الاحتلال والاعتداءات في مسار متواز.

المال والسلاح

إلى جانب البعد الأمني، تضيف مصادر أميركية طبقة أخرى من القلق تتعلق بالشق المالي. فبحسب هذه المصادر، لا يزال “حزب الله” يدخل إلى لبنان ما يقارب مليار دولار سنوياً عبر قنواته المالية الخاصة، وفي مقدمها جمعية “القرض الحسن” وشبكة من المصارف والمؤسسات غير الشرعية التي تعمل خارج النظام المصرفي الرسمي. يضاف إلى ذلك استخدام الذهب وسلع أخرى تمر عبر دول ثالثة لنقل التمويل والقطع الأساسية لتصنيع السلاح داخل لبنان على رغم من العقوبات.

من وجهة النظر الأميركية، هذا يعني أن الدولة اللبنانية لم تقم بما يكفي لمكافحة اقتصاد الظل الموالي للحزب، على رغم من التحذيرات المتكررة من وزارة الخزانة الأميركية. الوفود المالية التي زارت بيروت، ومن بينها وفد الخزانة، حملت إلى المسؤولين لوائح بأسماء مصارف وشخصيات تشتبه واشنطن بتورطها في تبييض الأموال أو تمريرها لمصلحة الحزب، طالبة اتخاذ إجراءات حاسمة. لكن النتيجة، كما تنقل تلك المصادر، كانت مزيجاً من الوعود والتسويف، في ظل طبقة سياسية تصفها بعض الدوائر الدولية بـ”الديناصورات” التي انتهى زمنها، وتعد أن عام 2025 لا يشبه 2006 وأن المنطقة تغيرت وأنتم ملحقون بالقطار ولا خيار لديكم.

رسالة تتجاوز هيكل

في هذا السياق، يصبح إلغاء زيارة قائد الجيش أكثر من مجرد اعتراض على بيان أو تقرير سري. مصادر أميركية قريبة من الملف تؤكد أن الرسالة موجهة أيضاً إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، القائد السابق للجيش، وإلى الحكومة مجتمعة. فالعين الأميركية لا ترى خلافاً جوهرياً بين الأداء العسكري والأداء السياسي: كلاهما، برأيها، يكرس واقع هيمنة “حزب الله” بدل كسره.

هذه البرودة في العلاقة لا تقتصر على ملف السلاح. ففي المحطات الإقليمية والدولية الأخيرة، لوحظ تهميش لبنان في أجندة واشنطن مقارنة بدول أخرى. في قمم عربية ودولية، عقدت الإدارة الأميركية لقاءات مع قادة من دول كانت لأعوام على خلاف معها، بما في ذلك القيادة السورية الجديدة، بينما لم يحظَ الرئيس اللبناني بلقاءات جدية. هذا التباين يقرأه دبلوماسيون أوروبيون على أن واشنطن باتت أكثر اقتناعاً بجدوى تغيير سلوك أنظمة كانت خصماً سابقاً، من اقتناعها بقدرة لبنان الحالي على الفكاك من قبضة المحور الإيراني.

تداعيات محتملة

وفق تقديرات مصادر أميركية وغربية، الخطوات المقبلة قد تشمل ثلاثة مسارات مترابطة:

1. المساعدات العسكرية على المحك: حزمة الـ230 مليون دولار قد تعلَّق جزئياً أو كلياً إذا لم تسجل واشنطن “تقدماً جوهرياً” في ملف حصر السلاح. تعليق المساعدات، في ظل الانهيار الاقتصادي وتآكل رواتب العسكريين، سيضعف الجيش حتماً ويهدد تماسكه.

2. عقوبات على شخصيات سياسية وربما رسمية: تتحدث مصادر في واشنطن عن لوائح قيد الدرس تطال شخصيات من “الدولة العميقة” اللبنانية، يشتبه بأنها تغطي تمويل الحزب أو تعرقل تنفيذ القرارات الدولية. الجديد المحتمل هو نقل العقوبات من إطار رجال الأعمال وحلفاء الحزب التقليديين إلى مسؤولين في صلب الدولة، وربما إلى ضباط أو مسؤولين أمنيين إذا اعتبروا جزءاً من منظومة التعطيل.

3. تعميق عزلة لبنان ورفع الغطاء عن الاستقرار الهش: إذا استمرت بيروت في النهج نفسه، قد تختار واشنطن ترك لبنان يواجه وحده ضغوطاً إسرائيلية وإقليمية متزايدة.

“جرس إنذار”

وفي السياق، يرى الناشط السياسي والأكاديمي مكرم رباح أن قرار الإدارة الأميركية (wake-up call) قاسياً وموجهاً إلى الدولة اللبنانية برمتها، وفي طليعتها رئيس الجمهورية. فبرأيه، واشنطن قررت أن تترجم امتعاضها من ازدواجية الخطاب اللبناني: شيء يقال للصحافة المحلية، وآخر يقال في الغرف المغلقة للأميركيين، قبل أن يظهر في الممارسة انحياز واضح إلى سردية “حزب الله” على حساب مبدأ حياد الدولة ومصالحها العليا.

ينطلق رباح من البيان الصادر عن قيادة الجيش، الذي حمل إسرائيل وحدها مسؤولية ما يجري في الجنوب من دون أي إشارة إلى دور “حزب الله” في فتح الجبهة وإشعال الحدود. هذا البيان، كما يفهمه الأميركيون وفق قراءته، هو حلقة جديدة في مسار سياسي يقدم فيه الحزب بوصفه “مقاومة” شرعية، بات يجد غطاء مباشراً في مواقف رئيس الجمهورية نفسه، وخصوصاً عندما عبر عن “أمر” لقائد الجيش بالتصدي لإسرائيل، في خطاب يمكن أن يسوق داخلياً على أنه موقف سيادي، لكنه يقرأ في واشنطن كتكريس لخطاب “حزب الله” لا كخيار دولة تبحث عن حماية نفسها بالسياسة والقانون لا بالمغامرات العسكرية.

ويحذر من أن الثمن لن يكون معنوياً فحسب. فلبنان، الذي كان على مقربة من تثبيت مساعدات عسكرية إضافية بمئات ملايين الدولارات عبر الكونغرس، بات اليوم مهدداً بخسارة هذا المسار كاملاً، ليس لأن الأميركيين قرروا التخلي عن الجيش، بل لأن السلطة اللبنانية، وفي مقدمها رئيس الجمهورية، تعجز عن تقديم الحد الأدنى من التمايز السياسي عن “حزب الله”، أو حتى عن الاعتراف بأن السلاح غير الشرعي مشكلة بنيوية أعلنت الدولة نفسها عدم شرعيته في قرارات سابقة.

إنذار للرئيس

من جهته، يصف مدير التحالف الأميركي الشرق أوسطي للديمقراطية توم حرب، قرار واشنطن بصفعة سياسية مباشرة، لا للجيش فقط، بل للرئيس عون وللدولة اللبنانية بمؤسساتها كافة. فبرأيه، الرسالة الأميركية هذه المرة صريحة: المشكلة لم تعد مقتصرة على “حزب الله” وسلاحه، بل باتت تمتد إلى قيادة الجيش نفسها، وإلى رأس الدولة الذي يغطي هذا المسار ويستمر في اعتماد خطاب ملتبس يحاول الجمع بين التحالف مع الغرب والتماهي مع أجندة المحور الإيراني.

يذكر حرب أن الشرارة المباشرة جاءت من البيان الصادر عن قيادة الجيش قبل أيام من الزيارة، الذي حمل إسرائيل المسؤولية عن منع الجيش من القيام بواجباته، من دون أي إشارة إلى دور “حزب الله” في فتح الجبهة وتكريس منطق الدولة داخل الدولة. هذا البيان استدعى، خلال ساعات، ردين حادين من السيناتورين جوني إرنست وليندسي غراهام، اللذين تساءلا علناً كيف يمكن لواشنطن أن تواصل الاستثمار في مؤسسة عسكرية تسقط اللوم على إسرائيل بدل تسمية المشكلة الحقيقية المتمثلة في سلاح “حزب الله”، فيما تعد الولايات المتحدة أن إسرائيل هي التي كبحت قدرات الحزب العسكرية في الأعوام الأخيرة.

وبرأي حرب، فإن هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن مسار تراكمي من التوتر بين واشنطن والقيادة العسكرية اللبنانية، ظهر بوضوح في اللقاء السابق بين الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس والعماد هيكل، الذي تخللته أجواء مشحونة على خلفية ما تعده الإدارة الأميركية انحيازاً ثابتاً من قيادة الجيش، ورئيس الجمهورية من خلفها، لخطاب “حزب الله” ورفضاً عملياً لأي إجراءات جدية لضبط سلاحه أو فك التشابك بينه وبين مؤسسات الدولة. إذ تنظر واشنطن، بحسب حرب، إلى شبكة من الضباط المتماهين مع أجندة الحزب داخل المؤسسة العسكرية، وإلى تنسيق أمني وسياسي مستمر مع شخصيات مثل وفيق صفا، كدليل على أن الجيش لم يحسم خياره بعد لمصلحة دولة سيدة مستقلة، بل لا يزال يحاول اللعب على حبال متناقضة لا يمكن للأميركيين قبولها إلى ما لا نهاية.

وانطلاقاً من ذلك، يذهب حرب إلى القول إن مستقبل العلاقة الأميركية – اللبنانية أصبح مرتبطاً بشكل مباشر بكيفية تعامل بيروت، ورئيس الجمهورية تحديداً، مع هذا الإنذار السياسي القاسي. فإما أن تقدِم السلطة على قطع الحلقة المفرغة عبر تغيير على مستوى قيادة الجيش وتعيين قائد “سيادي” يعمل على تنظيف المؤسسة من الاختراقات الموالية لـ”حزب الله”، بما يفتح صفحة جديدة مع واشنطن ويبقي المساعدات العسكرية ضمن مسارها؛ وإما أن تختار الاستمرار في الرهان على إيران و”حزب الله”، وعندها ستتعامل الولايات المتحدة مع لبنان كبلد خارج منظومة حلفائها، مع ما يعنيه ذلك من تجميد أو تقييد للمساعدات وربطها بشروط قاسية، وصولاً إلى مشاريع في الكونغرس تربط أي دعم بخطوات ملموسة نحو تجريد الحزب من سلاحه.

قطيعة سياسية

انطلاقاً من مقاربة الباحث في الشأن الأميركي حسين عبدالحسين، لا يمكن التعامل مع إلغاء اجتماعات قائد الجيش اللبناني في واشنطن كحادثة بروتوكولية عابرة، بل كمؤشر صارخ على تبدل نظرة الإدارة الأميركية إلى الدولة اللبنانية ومؤسساتها الأمنية. فبحسب عبدالحسين، المشكلة بدأت “منذ لحظة وصوله إلى المطار”، في إشارة إلى أن مناخ الزيارة كان سلبياً قبل أن تتخذ واشنطن قرارها بقطع المواعيد وإلغاء الاستقبال الذي كان مقرراً له.

يقدم عبدالحسين صورة قاتمة: لا ود ولا ثقة حالياً في واشنطن تجاه الجيش اللبناني ولا تجاه قائده ولا تجاه الدولة اللبنانية ككل. هذه الخلاصة لا تنفصل، برأيه، عن مسار كامل تراكم خلال الأشهر الماضية، انتقل فيه الرئيس عون من خطاب واضح يعد بتطبيق الطائف والقرار 1701 وحصر السلاح بيد الدولة، إلى خطاب جديد يقوم على “الحفاظ على التوازنات الداخلية” والوقوف على مسافة واحدة من الجميع، مع تحميل المسؤولية لإسرائيل والتلويح بـ”بخ السم في واشنطن”، في الوقت الذي كان يفترض فيه إظهار تقدم ملموس باتجاه نزع سلاح الحزب أو على الأقل ضبط تمدده.

في هذا السياق، يصبح إلغاء مواعيد هيكل، كما يقرأ عبدالحسين، نتيجة مباشرة لحالة التململ والتذمر داخل إدارة ترمب من الثنائي عون – هيكل. فالفريق الذي جاء إلى السلطة متعهداً تطبيق القرار 1701، وحصر السلاح بالدولة قبل نهاية العام، عاد اليوم ليعلق تنفيذ الخطة على سلوك إسرائيل، ويتحدث عن توازنات داخلية وهواجس حرب أهلية، من دون أن يقدم للأميركيين أي تقرير واضح عما أنجز في ملف السلاح غير الشرعي. أمام هذا التضارب، بدا لواشنطن أنها تتعامل مع قيادة مرتبكة تمارس “التذاكي السياسي” أكثر مما تقدم مساراً جدياً لبناء دولة سيدة.

تراجع الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية اللبنانية

التوقيت نفسه ليس بريئاً في قراءة عبدالحسين. فالرسالة التي حملها وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت، والمرتبطة بمحاربة الاقتصاد النقدي وتمويل “حزب الله” خارج المنظومة المصرفية الشرعية، ترافقت عملياً مع تراجع الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية اللبنانية كقناة موثوقة للتعاون. إلغاء لقاءات قائد الجيش يأتي هنا كتكملة لهذه السياسات: واشنطن تقول، بصورة غير معلنة ولكن قاسية، إن الشريك الذي عولت عليه أعواماً في المؤسسة العسكرية لم يعد قادراً أو ربما لم يعد راغباً في خوض مواجهة حقيقية مع بنية “الدولة داخل الدولة”.

من هذه الزاوية، لا يقتصر أثر الخطوة على هيكل شخصياً، بل يتجاوزها إلى مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والمؤسسة العسكرية اللبنانية. فبدل أن تشكل زيارة قائد الجيش مناسبة لتعزيز الدعم وتسويق رواية رسمية لبنانية متماسكة حول تنفيذ القرارات الدولية وضبط “القرض الحسن” والاقتصاد الموازي، تحولت إلى محطة كاشفة لانهيار مستوى الثقة. وهنا يحذر عبدالحسين من أن استمرار هذا المسار قد يدفع واشنطن أكثر فأكثر إلى إدارة الملف اللبناني عبر إسرائيل وحدها، مع ما يعنيه ذلك من تراجع الوزن السياسي للبنان الرسمي، وتحويله من شريك محتمل في صناعة التسوية إلى مجرد ساحة تخضع لتفاهمات الآخرين وحساباتهم الأمنية.

رودولف هيكل أول ضحايا الغضب الأميركي على لبنان .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print