جوزاف عون على خط النار: إما سلام شجاع أو فوضى الحرب الكبرى

1129710-1167815195

يقف لبنان اليوم على مفترق خطر بين السلام والحرب، مع اقتراب انتهاء مهلة اتفاق وقف إطلاق النار التي تلت عملية “سهام الشمال”. فكل المسارات السياسية والدبلوماسية أُقفلت، وبدأ العد العكسي نحو مواجهة محتملة مع إسرائيل.

بعد عام على نهاية عملية “سهام الشمال” التي شنتها إسرائيل على “حزب الله”، يجد لبنان نفسه على حافة خطر عودة الحرب، إذ إن كل المسارات أقفلت وكل البدائل استنفدت، ولم يعُد أمام الدولة سوى خيارين لا ثالث لهما، إما الدخول في مفاوضات سلام جدية ومباشرة مع إسرائيل، أو مواجهة حرب مدمرة تلوح في الأفق القريب. فمهلة السنة على اتفاق وقف إطلاق النار تقترب من نهايتها بسرعة، والعواصم الكبرى تتعامل مع لبنان على أنه أمام أسابيع قليلة قبل لحظة الحسم.

من هنا، لم يكن إطلاق رئيس الجمهورية جوزاف عون فكرة التفاوض خطوة عابرة، بل إعلاناً واقعياً أن البلاد دخلت فعلياً المنعطف الأخير قبل الانفجار. وهذه المبادرة جاءت بعد سلسلة تطورات متتابعة بدأت مع اتفاق وقف إطلاق النار، ثم الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس الجمهورية، مروراً بمرحلة تشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، وصولاً إلى القرارات السياسية المفصلية في الخامس والسابع من أغسطس (آب) الماضي، حين اتخذ القرار الرسمي بحصر سلاح “حزب الله”، ووضعت مهلة سياسية تمتد حتى نهاية العام الحالي لتطبيق هذا القرار.

لكن المؤشرات كافة تدل اليوم على أن هذه المهلة لن تستكمل بسلام، فـ”حزب الله” يرفض تسليم سلاحه ويؤكد عبر مسؤوليه أنه يمتلك القوة والقدرة على المواجهة، والأسوأ، ما كشف عنه أمينه العام صراحة أن الحزب أعاد هيكلته وتنظيمه، وأنه استطاع تأمين الممرات الآمنة لوصول الأموال والسلاح، في تحدٍ واضح للدولة والمجتمع الدولي. وهذه الرسائل لم تمر مرور الكرام، بل عُدّت في الخارج دليلاً على أن الحزب لا يزال يحتفظ ببنيته العسكرية، مما يعزز القناعة بأن لبنان لم ينفذ التزاماته بعد اتفاق الهدنة.

العد التنازلي

في المقابل، تتعامل إسرائيل بجدية متزايدة مع اقتراب نهاية مهلة “العام” التي حددها اتفاق وقف إطلاق النار، ومع حلول نهاية العام يتوقع أن تبدأ مرحلة جديدة من التصعيد. وتشير أوساط سياسية في واشنطن وتل أبيب إلى أن القرار العسكري الإسرائيلي بات شبه جاهز، وأن الغطاء الأميركي متوافر مسبقاً، في حال لم تتخذ خطوات واضحة لنزع سلاح “حزب الله” خلال أسابيع قليلة.

وتزامن هذا الوضع مع زيارة مرتقبة للبابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، وهي محطة رمزية حساسة، تعطي إشارات إلى أن المجتمع الدولي يراقب الوضع اللبناني عن كثب، وأن نافذة الحل الدبلوماسي تضيق يوماً بعد يوم، وحتى الدوائر الأميركية تتحدث عن مهلة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من أغسطس الماضي، وهي الفترة التي تعدها واشنطن “الفرصة الأخيرة” قبل الانتقال إلى سيناريوهات أكثر خطورة.

في هذه الأثناء، لا يخفي القادة الإسرائيليون نواياهم، فهم يعدّون أن تصريحات “حزب الله” الأخيرة، ولا سيما الحديث عن “طوفان أقصى من لبنان” وسيناريو احتلال الجليل، تشكل تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل، وتمنحها المبرر السياسي والعسكري للقيام بعملية استباقية واسعة. وبذلك، يصبح لبنان أمام واقع جديد، العد العكسي للحرب قد بدأ فعلاً.

الدولة والجيش في الخطر

وتزداد خطورة المشهد حين تشير بعض مراكز الدراسات الإسرائيلية إلى أن الجيش اللبناني يغطي عملياً عملية إعادة بناء قدرات “حزب الله” جنوب الليطاني، وأن هذه التغطية قد تستخدم ذريعة في أي هجوم مقبل، مما يعني أن لبنان ككل سيتحول ربما إلى هدف عسكري شامل، وأن أية حرب مقبلة لن تقتصر على الحزب ومواقعه، بل ستشمل البنى التحتية والمؤسسات المدنية والجيش اللبناني نفسه، باعتباره “متواطئاً أو عاجزاً عن فرض سلطة الدولة”.

لهذا، تبدو المفاوضات اليوم ضرورة وجودية لا خياراً سياسياً، فكل المؤشرات تدل على أن الحرب المقبلة، إن اندلعت، لن تشبه أية حرب سابقة، وستكون حرب تدمير شامل للبنان كدولة. ومن هنا تأتي أهمية مبادرة رئيس الجمهورية التي فتحت الباب أمام المخرج الوحيد الممكن، التفاوض.

ليس خيانة بل إنه إنقاذ

كل الأصوات التي سارعت إلى اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة لأنها ربطت المسألة بالمفاوضات تتجاهل الواقع المرير، هل بقي أمام لبنان خيار آخر؟ هل نجحت كل المسارات السابقة؟ الجواب واضح وهو لا.

اتفاق الهدنة القديم لم ينفذ والقرار 1701 الصادر عام 2006 بقي حبراً على ورق واتفاق وقف إطلاق النار الأخير لم يحترم لا من الجانب الإسرائيلي ولا اللبناني. أما “حزب الله”، فقد وقع فعلياً على التزام بعدم إعادة بناء قوته العسكرية، لكنه خرق الاتفاق علناً وواصل نشاطه العسكري، بل تباهى بقدرته على التهديد، مانحاً بذلك إسرائيل الذريعة القانونية والسياسية لمهاجمته.

من هنا، لا يبقى أمام لبنان سوى فتح مسار التفاوض المباشر كوسيلة إنقاذ وطنية، فالقضية لم تعد تقنية ولا عسكرية بحتة لتعالج في إطار اللجان الدولية في الجنوب، بل هي قضية سياسية وتاريخية تتطلب مفاوضات مباشرة وعلنية بين وفد وزاري لبناني رسمي ووفد حكومي إسرائيلي، بإشراف أو رعاية دولة كبرى مثل الولايات المتحدة أو إحدى الدول الأوروبية.

إن الخوف من التفاوض في لبنان لم يعد مبرراً، فقد تحول إلى ثقافة تخوين سياسية زرعها “حزب الله” طوال أعوام، جعلت أي نقاش في مستقبل العلاقة مع إسرائيل خطاً أحمر. لكن الحقيقة البسيطة التي يتناساها كثرٌ هي أن كل الحروب تنتهي إلى طاولة مفاوضات، وأن من الحكمة أن يجلس لبنان إليها من موقع القرار لا من تحت الركام.

وما يطرحه رئيس الجمهورية ليس استسلاماً، بل محاولة لوضع القرار الوطني في يد الدولة، لا في يد الميليشيات. فلبنان لا يمكن أن يظل رهينة سلاح خارج الشرعية، ولا يمكن أن يستمر في العيش داخل دوامة التهديد والدمار المستمر.

الدقة في اللحظة

اختيار الرئيس جوزاف عون لهذا التوقيت ليس صدفة، بل قراءة دقيقة لموازين القوى الإقليمية، فالمهلة السياسية والعسكرية التي تلي اتفاق وقف النار توشك على الانتهاء، والمجتمع الدولي فقد صبره. من هنا، فإن إطلاق مسار المفاوضات الآن هو التوقيت الذهبي الأخير لإنقاذ لبنان من الانهيار الكامل.

وأي تأخير إضافي يعني أن البلاد ستجد نفسها في مواجهة حرب لا تملك قرارها ولا قدرة على مواجهتها. أما الذين يهاجمون الرئيس لأنه دعا إلى التفاوض، فهم أنفسهم من صمتوا لعقود عن تجاوزات الحزب، وسكتوا عن تغوله على مؤسسات الدولة، وأسهموا في تحويل لبنان إلى ساحة حرب بالوكالة.

إن لبنان اليوم أمام مفترق طرق مصيري، إما أن يتحمل مسؤولياته كدولة ذات سيادة، ويفتح باب المفاوضات من موقع الندية والعقلانية، وإما أن يواصل الانحدار نحو الانتحار الجماعي باسم “المقاومة”.

والتفاوض لا يعني الخضوع، بل إعادة تنظيم العلاقة مع العدو وفق قواعد القانون الدولي، وضمان أمن لبنان واستقراره عبر قرار وطني سيادي. ومن لا يريد التفاوض اليوم، فسيجبر عليه غداً لكن من موقع الهزيمة.

الوقت ينفد، والمهلة الأخيرة تقترب من نهايتها، والخيارات تضيق. أمام لبنان فرصة واحدة أخيرة، إما أن يختار طريق المفاوضات والسلام، أو أن ينتظر حرباً لن تبقي حجراً على حجر.

جوزاف عون على خط النار: إما سلام شجاع أو فوضى الحرب الكبرى .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print