عام ثقيل مرّ على إيران. عام بدأ بالضربات ولم ينتهِ عند حدود الانهيار الداخلي. عام بدأ بخروج الديمقراطيين من البيت الأبيض وعودة ترامب على رأس إدارة ألغت مفاعيل الدبلوماسية الليّنة وسرعان ما أعلنت مهلة زمنيّة محدّدة بـ 60 يومًا للانتهاء من الملف النوويّ، وإلّا الحسم العسكريّ، فكانت سلسلة استهدافات متلاحقة طالت برنامج طهران النووي، وأصابت مواقع حسّاسة وعمليات تخصيب بالغة الدقة، وأحدثت صدمة داخل أروقة النظام. هذه الضربات لم تكن حدثًا أمنيًا عابرًا ولا مجرّد رسائل ردعيّة، بل شكّلت مسًّا مباشرًا بأحد أعمدة عظمة الجمهورية الإسلامية ورمزيتها الاستراتيجية، وكشفت في الوقت نفسه هشاشة منظومة أمنيّة لطالما تباهت بقدرتها على الحماية والردع.
الاستهدافات النوويّة، التي تراوحت بين ضربات جويّة وعمليات ميدانية وهجمات سيبرانية، أعادت إلى الواجهة سؤال الاختراق الأمنيّ، ورفعت منسوب القلق داخل القيادة الإيرانية، خصوصًا أنها طالت مشروعًا تعتبره طهران ضمانة وجودها ونفوذها في الإقليم. وفي لحظة إقليميّة شديدة التعقيد، بدت إيران مكشوفة أكثر من أيّ وقت مضى، وسط تضييق الخناق عليها من أكثر من اتجاه.
نجا النظام من الضربات ولو مترنحًا، لكنه لم يسلم من إعادة تفعيل ملف العقوبات الذي عاد إلى الواجهة بقسوة مضاعفة، ولكن هذه المرّة من البوّابة الأوروبية. فبعد أن فقدت إيران محاورًا ليّنًا في واشنطن، ها هي تفقد أيضًا ليونة المواقف من الجانب الأوروبي. وكأن كلّ شيء انقلب رأسًا على عقب. عقوبات أوروبية وأممية أُعيد تفعيلها، قنوات مالية أُغلقت، وتعثرت مفاوضات الملف النوويّ من دون أيّ أفق جديّ لإحيائها. لم تعد العقوبات مجرّد ضغط اقتصاديّ، بل تحوّلت إلى أداة سياسيّة تهدف إلى عزل طهران وتقليص قدرتها على الحركة. ولم تقتصر الضغوط على البرنامج النوويّ، بل امتدّت إلى أذرعها العسكرية في المنطقة، التي شهدت تراجعًا ملحوظًا في نفوذها، سواء في لبنان أو في سوريا، حيث شكّل سقوط نظام الأسد ضربة قاسية قطعت طريق المحور وكسرت هلالًا كانت طهران تعتبره خط دفاع استراتيجيًا متقدّمًا لها.
هذا التراجع الإقليميّ ترافق مع عزلة سياسية واقتصاديّة متزايدة، في توقيت دوليّ بالغ الحساسيّة، حيث تتقاطع أزمات كبرى وحروب مفتوحة وتغيّرات في موازين القوى. وفي ظلّ هذا المشهد المركّب، انتقلت تداعيات الضغوط الخارجية بسرعة إلى الداخل الإيراني. تحت وطأة هذا الضغط المتراكم، انفجر الداخل الإيراني على وقع انهيار اقتصاديّ غير مسبوق. الريال الإيرانيّ تراجع إلى أخطر مستوى في تاريخه عند نحو مليون و 400 ألف ريال مقابل الدولار، ما يعني عمليًا أنه فقد حوالى 98 في المئة من قيمته خلال سنوات قليلة. هذا الانهيار لم يكن رقمًا ماليًا فحسب، بل ترجمة مباشرة لأزمة بنيوية عميقة، عمّقتها العقوبات، وسوء الإدارة، وانسداد الأفق السياسي.
الأسعار حلّقت، القدرة الشرائية تآكلت، والطبقة الوسطى باتت شبه معدومة. الشارع عاد إلى الغليان، وهذه المرّة بوتيرة متعاظمة من المرجّح أن تتخطى موجات الاحتجاج السابقة. تحرّكات واعتراضات عمّت طهران وتوسّعت إلى مدن أخرى، وحملت رسالة واضحة: لا ثقة بالإدارة الرسمية بعد انكشاف وعودها الكاذبة في ظلّ غياب أي مؤشرات حقيقيّة على انفراج قريب.
اللافت في هذه المرحلة أن ردّ النظام لم يأتِ على النحو التقليديّ الذي اعتاده الإيرانيون. فمن يراقب المشهد الداخلي يلاحظ بوضوح تحوّلًا في الأسلوب. القبضة الأمنية لم تختفِ، لكنها بدت أقلّ حدّة، وأكثر حذرًا، إذ سبقت الغضب الشعبي مشاهد حفلات موسيقية في الشوارع، وتراخ نسبيّ في تطبيق بعض القيود الاجتماعية، في محاولة واضحة من قبل نظام الملالي لامتصاص الغضب الشعبي وتخفيف حدّة الاحتقان، وإبعاد شبح الانفجار الداخليّ، بعد فشل السلطة في تقديم أيّ حلّ عمليّ أو إصلاحيّ يريح الشعب في يوميّاته، وسط تركيز نظام المرشد على الخطاب العسكري التصعيديّ ومحاولة تظهير تعافي البنيان الحربي وإعادة تكوين ما تهدّم.
ولم تأبَ هذه السنة الرحيل قبل أن يخرج ترامب من مارالاغو، وإلى جانبه نتنياهو، “بطل الحرب”، كما سمّاه الرئيس الأميركي، ليهدّد النظام الإيراني من مغبّة الضربة القاضية في حال حاول إعادة إحياء برنامجيه النووي والصاروخي، وتهديد أمن المنطقة.
في المحصّلة، بين ضربات استهدفت قلب البرنامج النووي، وتشديد غير مسبوق للعقوبات، وتراجع النفوذ الإقليمي، وانهيار اقتصادي داخلي، يقف النظام الإيراني أمام مرحلة دقيقة لا تشبه سابقاتها وتفرض عليه خيارات قليلة، أحلاها مرّ. فإذا تراجع أمام أميركا وإسرائيل سيواجه غضب أنصاره، وإذا أعاد تفعيل المواجهة معهما، يكون حقق رغبات نتنياهو الذي يخرج من منتجع ترامب بضوء أخضر لضرب ما تبقى من قدراته العسكرية. أمام هذا المشهد المأزوم، وخيارات إيران الصعبة، يبقى السؤال الأكبر: هل تتجه طهران نحو تسوية تفتح نافذة تفاوض وتخفف عزلتها الخانقة، أم تختار المضيّ قدمًا في طريق التصعيد، بكلّ ما يحمله ذلك من مخاطر على استقرارها ومستقبلها، داخليًا وخارجيًا؟
عام عاصف على إيران… الملالي أمام اختبار مصيريّ .