يوضح الاعتراف الإسرائيلي بـِ “جمهورية أرض الصومال” حقيقة مشروع إسرائيل على مستوى المنطقة ككل. هدفها التقسيم والتفتيت. وهي مشاريع قديمة جديدة تعتبر أن الفرصة مؤاتية لإعادة إحيائها أو تطبيقها. ينذر ذلك بمخاطر كبيرة على المنطقة، خصوصاً على سوريا ولبنان لا سيما في ظل التوترات الداخلية التي يشهدانها. أي حدث في أحد البلدين سينعكس على الآخر. كلاهما حضرا على طاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. يبدو ترامب مهتماً بالوصول إلى اتفاق سوري إسرائيلي، أو بالحد الأدنى وقف التصعيد وضبط الاستقرار هناك، بينما يبدو نتنياهو مهتماً باستمرار التدخل في البلدين ساعة يشاء وفي أي طريقة يريدها.
تصغير الكيانات
يجتمع الأميركيون والإسرائيليون على فكرة أساسية وهي تغيير “عقيدة” الدول والمجتمعات، والانتقال من حالة العداء مع إسرائيل إلى حالة التصالح معها أو الدخول في اتفاقات سلام. كما أنهما يتفقان على فكرة “إنهاء أي حالة للمقاومة المسلحة، أو ما يسمونه “نهاية عصر الميليشيات”. هنا تفتح هذه المعادلة النقاش أمام مسألتين: هل ترتبط هذه النهاية بنهاية نماذج الدول القائمة والبحث عن أشكال جديدة للنظم السياسية والاجتماعية؟ أم أن نهاية “حالات التسلح خارج الدولة” يمكنه أن يعزز منطق الدول المركزية؟ بالتأكيد أن إسرائيل وانطلاقاً من تجربتها مع الصومال لا تفضل الدول المركزية، وتتبنى خيار “تصغير الكيانات” لتَعْظُم هي ويتعاظم دورها، على حساب الدول الأخرى. أما في واشنطن فوجهات النظر متعددة. هناك من يقتنع بمسألة “الفيدراليات” في مقابل من يرفضها، ويعتبر أنها تجارب فاشلة في منطقة الشرق الأوسط، كما قال الموفد الأميركي إلى سوريا توم باراك أكثر من مرة.
الاستثمار في الصراع
المؤكد حتى الآن، أن ما تسعى إليه إسرائيل، هو الاستثمار بالصراع الداخلي القائم في كل دولة. ففي لبنان، تسعى إلى التفريق بين الدولة اللبنانية من جهة وحزب الله من جهة أخرى. وهدفها حصول صدام بين غالبية الشعب اللبناني ومؤسسات الدولة، ولا سيما الجيش، مع حزب الله. في سوريا، تسعى إسرائيل إلى تغذية الصراعات في سبيل إضعاف الدولة السورية ومركزيتها، من خلال استغلال صراعات سياسية أو اجتماعية أو حتى بنيوية بين مكونات إجتماعية مختلفة وبين الدولة السورية. وهو ما تسّرب حوله الكثير من المعلومات في صحف أجنبية، وما يجري تداوله في الأوساط الديبلوماسية، حول التحركات الإسرائيلية في السويداء، أو مع قوات سوريا الديمقراطية، أو محاولات تسجيل اختراقات في الساحل السوري مع بعض المجموعات من العلويين، في إطار إحياء إسرائيل لمفهوم “حلف الأقليات”. في مقابل ارتفاع منسوب الصراع الأهلي أو الطائفي من دون إجراءات جدية للحد منه والاتجاه نحو مصالحة جدية تعيد إنتاج الوطنية السورية.
تفكيك بنية الدولة
في السياق، كل المعلومات تجمع على وجود نشاط استخباري إسرائيلي يتنامى أكثر فأكثر في سوريا، وسط تأكيدات بأن إسرائيل لن تتخلى عن اختراقاتها على الساحة السورية، وتريد أن تبقي “الدولة السورية” في حالة ضعف كي تتمكن من تفكيك بنيتها على أساس طائفي أو قومي، وفرض الوقائع السياسية التي تريدها لاحقاً. وفي المقابل، فإن مواجهة هذا المشروع الخطر، سواء في سوريا أو لبنان لا يمكنه أن يتحقق إلا من خلال تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية المبنية على عقد اجتماعي متجدد، يضمن مشاركة الجميع في أي تحول أو تطور سياسي. وهنا تبقى المسؤولية الأكبر على السلطة قبل المجتمع أو مكوناته.
تمديد مهلة لبنان؟
لا بد من انتظار نتائج اجتماع ترامب ونتنياهو، والذي تحيط به تناقضات كثيرة. بعضها يشير إلى مضي نتنياهو بمشروعه من غزة إلى سوريا ولبنان، وأنه حاول إقناع ترامب في ذلك، وبعضها الآخر يشير إلى أن ترامب يضغط على نتنياهو للوصول إلى تفاهم مع سوريا، بينما تركيز الأخير سيكون على إيران وإعادة المواجهة معها. في السياق، تبرز معلومات تتحدث عن سعي أميركي لتمديد الممهلة الممنوحة للبنان لتطبيق خطة حصر السلاح على كل الأراضي اللبنانية لستة أشهر. على أن يصدر الجيش موقفاً واضحاً حول ما حققه وانتقاله إلى المرحلة الثانية. كذلك فإن المعلومات تشير إلى سعي أميركي لتمديد المهلة أمام تطبيق اتفاق 10 آذار بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية لستة أشهر أيضاً، وذلك لتجنب حصول أي صدام عسكري. وفي السياق، تكشف مصادر متابعة عن اجتماعات عقدت يوم السبت الفائت بين مسؤولين سوريين وأكراد للبحث في كيفية تطبيق الاتفاق، علماً أن وجهات النظر لا تزال متباعدة، حول كيفية دمج الفرق العسكرية لقسد بالجيش وحول الموارد الطبيعية.
رهانات متقابلة
هنا، تتعدد الآراء بين من يعتبر أن قسد تحاول كسب الوقت بانتظار تغيير الظروف السورية، وإضعاف سلطة الشرع أكثر، كي تبقى قادرة على الإمساك بسيطرتها على 3 محافظات وهي الرقة، دير الزور والحسكة. بينما في المقابل، هناك من يعتبر أن الشرع يراهن على اعتماد سياسة النفس الطويل، والموازنة في مواقفه بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول عربية كثيرة تدعمه، وسط وضع سيناريوهات حول احتمال لجوء العشائر إلى الانقلاب على قسد، ومحاولة استقطاب مجموعات من قسد لا تلتقي توجهاتها مع توجهات مجموعات أخرى أكثر تشدداً ضد دمشق. أي أن الرهان هو على خلق انقسامات وزرع الفرقة بين مكونات قسد.
لقاء من أجل السويداء في الأردن
على المستوى السوري أيضاً، تكشف مصادر متابعة عن تحضير للقاء سوري أميركي في الأردن للبحث في تطبيق اتفاق السويداء، وفي السياق برزت الضربات الأردنية خلال الأيام الماضية لمعابر التهريب في السويداء، وهو ما تصفه مصادر متابعة بأنه رسالة قاسية وواضحة وحاسمة ولا يمكن أن تحصل من دون تنسيق مع الأميركيين، والهدف من هذه الضربات هو الضغط على مجموعات في السويداء لإلزامها بتطبيق الاتفاق، بالإضافة إلى تجفيف المنابع المالية لها. في السياق، تكشف مصادر متابعة أن هناك حالات صراع تتنامى داخل السويداء بين مجموعات محسوبة على الشيخ حكمت الهجري ومجموعات أخرى. وهناك حالة اعتراضية تتنامى ضد الهجري، وفي السياق تكشف مصادر متابعة عن تواصل حصل بين مرجعيات درزية في السويداء مع رئيس طائفة الموحدين الدروز في إسرائيل الشيخ موفق طريف وقدموا له الشكاوى على تصرفات الهجري، فما كان من طريف إلا أن زاد من انتقاداته للهجري. وتضيف المصادر بأن الشيخ طريف طلب من نتنياهو أن يجري اتصالاً بالهجري ويبلغه بأن إسرائيل لا تقدم أي تعهد ببناء دولة للدروز، وأنها فقط مستعدة لحمايتهم في حال تعرضوا لأي اعتداء. هذه الأجواء تشير إلى ارتفاع منسوب الصراع داخل السويداء.
أما في الساحل، فالمسألة مشابهة أيضاً في ظل الانقسامات بين مجموعات مختلفة في الطائفة العلوية، فبعضهم على تنسيق مع الدولة السورية، أما البعض الآخر فهم محسوبون على النظام السابق ويتواصلون مع ضباط سابقين أو مع رجال الأعمال رامي مخلوف، بينما الحالة الثالثة والجديدة يمثلها الشيخ غزال غزال. جهات عديدة تسعى لاستغلال الإشكالات القائمة بين دمشق من جهة، والسويداء وقسد ومناطق الساحل السوري في سبيل إضعاف مركزية دمشق أو تأثيرها. وهو أكثر ما تسعى إسرائيل إلى استغلاله لإضعاف سوريا، ودفع بعض المكونات فيها للانطلاق بدعواتهم للمطالبة بكيانات ذاتية أو تقسيم أو فيدرالية، تحت شعار حماية الأقليات، بينما الهدف الإسرائيل هو تصغير الكيانات، أو إضعاف الدولة المركزية، وخلق “دويلات” على أساس طائفي ومذهبي أو قومي وعرقي، يحاكي مشروعها في تثبيت “يهودية الدولة”.
تركيا والسعودية
خطورة المشروع أنها تلفح سوريا كما لبنان ويمكنها أن تتمدد نحو دول أخرى، فتركيا إحدى أكثر الدول التي تعتبر أن المشروع الإسرائيلي يهدف إلى المس بكيانيتها. وتحت هذا السقف تقارب تركيا ملف قسد، وتنظر إلى سوريا كمساحة للصراع أو التنافس مع إسرائيل على وضع المنطقة وتوازناتها ومعابرها وممراتها. وفي السياق، وبعد اعتراف إسرائيل بجمهورية أرض الصومال، أصبحت تركيا أقرب إلى السعودية ومصر، مع الإشارة إلى التحالف الأساسي بين تركيا والسعودية حول سوريا وتوفير الحماية الكاملة لها والاستمرار بتوفير الدعم الأميركي للشرع.
مشروع إسرائيل- قبرص- اليونان
في المقابل، هناك جهات أخرى تبدو متضررة مع هذا التحالف او الالتقاء التركي السعودي السوري الذي يمكنه أن يفتح الجغرافيا السورية لمعابر وممرات تجارية توصل الشرق بالغرب والخليج بأوروبا عبر تركيا، وهذا بحد ذاته يمثل مواجهة للمشروع الإسرائيلي الذي يرتكز على إحياء تحالف دول شرق المتوسط مع اليونان وقبرص. وفيما كانت مصر إحدى الدول التي توافق على هذا التحالف، اليوم لا بد من انتظار موقفها بعد اعتراف إسرائيل بجمهورية أرض الصومال والاستعداد لبناء قواعد عسكرية فيها والوصول إلى البحر الأحمر والإطلالة على خليج عدن.
فرنسا خارج اللعبة
فرنسا، إحدى الدول المتضررة أيضاً من التحالف التركي السعودي السوري الذي يحظى بدعم أميركي، إذ تجد نفسها خارج المعادلة السورية، وتستشعر محاولات أميركية حثيثة لإخراجها من الساحة اللبنانية كلياً أيضاً. فحتى اجتماعات لجنة مراقبة وقف إطلاق النار الميكانيزم لم تسمح واشنطن لموفد فرنسي بحضورها، كما أن واشنطن تريد تثبيت حضورها في لبنان وسوريا عبر قوات في البلدين وتستغني عن القوات الأوروبية، كما أن فرنسا تنظر إلى مصالحها مهددة في لبنان أو سوريا، في حال قررت واشنطن الدخول على مجال النفط والغاز في البلدين. هذا يدفع فرنسا إلى البحث عن تموضع أو موطئ قدم، انطلاقاً من الساحل السوري والذي تعتبره محطة لتوسيع النفوذ، ولمقارعة روسيا. وهنا ثمة من يربط بعض التطورات باستمرار الاتصالات التي تجري بين فرنسا والشيخ غزال غزال من جهة، وبينها وبين قوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى، خصوصاً أنه خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها وفد سوري إلى موسكو، حصل تفاهم على ضمان روسيا لوضع الساحل، وتأييد روسيا لخيار دمشق وصيغتها لدمج الاكراد، مع التشديد الروسي على الحفاظ على وحدة الدولة السورية. الصراع على سوريا قديم، ويتجدد وهو قابل لأن ينفجر فيها في ظل استمرار التوترات الطائفية والمذهبية والتي تحمل أبعاداً سياسية دولية وإقليمية، هنا مسؤولية الدولة المركزية مضاعفة في احتضان الجميع لتكون ملاذهم بدلاً من دفعهم إلى ملاذات أخرى.
خوفٌ على سوريا: مواجهةُ التقسيم بعَقدٍ وطني متجدّد! .