أعادت التعديلات الجوهرية، على مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع”، رسم موازين توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف والمصارف والمودعين. كما حددت، ولو نظريا، آلية التعاطي مع واحدة من أعقد الملفات العالقة منذ عام 2019. هذه التعديلات لم تقتصر على تحسينات تقنية، بل طالت جوهر الأدوار والمسؤوليات بين الدولة، مصرف لبنان، والمصارف التجارية، ما جعل القانون أقرب إلى تسوية سياسية- مالية منها إلى خطة متكاملة قابلة للتنفيذ من دون شروط إضافية.
وقع رئيس الجمهورية جوزف عون اليوم مشروع القانون تمهيدا لإحالته إلى مجلس النواب، في خطوة تعكس انتقال الملف من مرحلة الصياغة الحكومية إلى الاختبار التشريعي والعملي. وبصيغته الأخيرة، يتقاطع المشروع مع العناوين العامة التي يطالب بها المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، ولا سيما لجهة الاعتراف بالخسائر وتنظيم مقاربة استرداد الودائع، إلا أن جوهر الإشكالية لا يزال متمحورا حول قابلية التطبيق الفعلي، وليس حول النوايا المعلنة.
لا يمكن إنكار أن النسخة النهائية تضم نقاطا إيجابية أساسية. أبرزها تحييد احتياطي الذهب بشكل صريح ومنع استخدامه كضمانة للسندات التي ستمنح لكبار المودعين، ما يحمي أحد آخر الأصول السيادية للدولة من الرهن أو التسييل. غير أن هذا الخيار، على أهميته السيادية، ينعكس سلبا على القيمة الفعلية لتلك السندات، ويحد من جاذبيتها وقدرتها على تعويض جزء من الخسائر، ما يطرح تساؤلات حول فعاليتها كأداة إنصاف.
كذلك، أدخلت التعديلات الأخيرة توسعة ملحوظة على صعيد الإعفاءات، عبر رفع سقف القروض المسددة بالليرة اللبنانية من 500 ألف دولار إلى 750 ألف دولار. هذه الخطوة تخفف الأعباء عن شريحة أوسع من المقترضين، لكنها في المقابل تفتح نقاشا حساسا حول العدالة، ولا سيما في ظل غياب معالجة متوازنة لحقوق المودعين الذين تحملوا القسم الأكبر من الخسائر من دون أي إعفاءات مماثلة.
أما الثغرة الأبرز في المشروع، فتتمثل في تجاهل ملف القروض التي سددت بالدولار المحلي. إذ لم يفرض أي رسم أو ضريبة على كبار المقترضين الذين استفادوا من هذا الواقع الاستثنائي، رغم أن معظمهم من شركات وتجار كبار حققوا أرباحا كبيرة نتيجة فروقات السداد. وكان من الممكن اعتماد مقاربة أكثر عدالة، عبر فرض ضريبة تصاعدية تتراوح بين 5% و30%، مع استثناء من سدد ديونه من أمواله الخاصة وليس من خلال شراء شيكات مصرفية بأسعار متدنية.
وعلى مستوى توزيع الكلفة، عكست التعديلات تحولا واضحا في ميزان المسؤوليات. فبعد استثناء الاحتياطي الإلزامي، تراجعت مساهمة المصارف بشكل كبير، ما جعل كلفة إعادة 100 ألف دولار لكل مودع، المقدرة بنحو 20 مليار دولار، موزعة بشكل شبه كامل على مصرف لبنان. إذ انخفضت حصة المصارف إلى نحو 5 مليارات دولار، مقابل حوالى 15 مليار دولار على عاتق المصرف المركزي، من بينها 8 مليارات دولار هي احتياطي إلزامي. هذا التعديل يفسر إلى حد كبير سبب ميل معظم المصارف إلى تأييد المشروع، لكنه في المقابل يضع عبئا ثقيلا على قدرة مصرف لبنان التنفيذية.
“الفجوة المالية” بصيغتها النهائية: قراءة أولية في التعديلات وأثرها على مصرف لبنان والمودعين .