مع اقتراب موعد الانتقال إلى المرحلة الثانية من تطبيق مبدأ حصرية السلاح، الممتدّة جغرافيًا بين نهري الليطاني والأوّلي، يدخل الملف واحدة من مراحله الحساسة منذ بدء النقاش الجدي حول استعادة الدولة لاحتكارها الشرعي للقوة العسكرية في البلاد . فهذه المرحلة لا يمكن التعامل معها بوصفها استكمالًا إداريًا أو تقنيًا لما نُفّذ جنوب الليطاني، بل تمثّل تحوّلًا بنيويًا في طبيعة المقاربة نفسها، إذ تنقل النقاش من إدارة سلاح تطالب إسرائيل بنزعه حماية لأمنها، ويصر “حزب الله” على ان تطبيق القرار 1701 يقتصر على جنوب النهر ، إلى معالجة وجوده داخل المجال الداخلي للدولة، بما يحمله ذلك من أبعاد سياسية وأمنية متشابكة.
فالمنطقة الواقعة شمال الليطاني لا تُعدّ ساحة مواجهة مباشرة مع العدو الإسرائيلي؛ بل تشكّل جزءًا من العمق الداخلي اللبناني، حيث يتداخل السلاح مع البنية السياسية والاجتماعية، ومع شبكة معقّدة من التوازنات الطائفية والحزبية. من هنا، لا يمكن فصل أي مقاربة أمنية أو عسكرية عن قرار سياسي واضح يحدّد الهدف النهائي من حصرية السلاح، وحدود هذه الحصرية، وآليات فرضها، وتوقيت الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
القرار السياسي قبل الجهوزية العسكرية
في هذا السياق، لا تتعلق الإشكالية بأي نقاش تقني أو ميداني. فالمعضلة الأساسية لا تكمن في الجهوزية العسكرية للجيش اللبناني، ولا في قدرته النظرية على الانتشار أو الضبط؛ بل في طبيعة القرار السياسي المطلوب، وفي مدى وضوحه وحسمه. فالمؤسسة العسكرية، بحكم دورها الدستوري ووظيفتها المهنية، لا تصنع القرار السيادي؛ بل تنفّذه ضمن سقف سياسي محدّد. وعندما يكون هذا السقف ملتبسًا، أو محكومًا بتوازنات متناقضة، تتحوّل أي خطة تنفيذية إلى عبء إضافي على الجيش، بدل أن تكون أداة لفرض سلطة الدولة.
ويشير متابعون إلى أن التجربة اللبنانية منذ انتهاء الحرب الأهلية أظهرت مرارًا أن غياب القرار السياسي الواضح هو العامل الأساسي في تعطيل أي مقاربة أمنية شاملة. فالجيش، مهما بلغت درجة احترافيته، لا يمكنه أن يعمل في فراغ سياسي، ولا أن يتحمّل وحده كلفة خيارات لم تُحسم في المؤسسات الدستورية.
قرار سيادي غير محسوم
ضمن هذا الإطار، يرى الجنرال المتقاعد خليل الحلو لـ “المدن” “أن المرحلة الثانية من حصرية السلاح تكشف، في جوهرها، أزمة قرار سياسي أكثر مما تكشف أزمة قدرة عسكرية. فالحكومة، لم تحسم حتى الآن خيارها النهائي: هل هي بصدد الانتقال الفعلي إلى فرض حصرية السلاح شمال الليطاني، أم أنها تفضّل إبقاء الملف ضمن دائرة الإدارة السياسية والإعلامية، من دون الذهاب إلى خطوات تنفيذية حاسمة؟“
هذا التردّد، وفق الحلو، “ينعكس مباشرة على المؤسسة العسكرية. إذ يُطلب من الجيش إعداد خطط من دون أن تُستكمل بقرار سياسي واضح، أو الانتشار في مناطق محدّدة من دون تحديد دقيق لطبيعة المهمة، وحدودها القانونية، وسقفها الزمني. وفي ظل هذا الغموض، يصبح الجيش في موقع الممسك بالأرض من دون امتلاكه الغطاء السياسي الكامل، لما قد يترتّب على هذا الانتشار من تطوّرات أو احتكاكات.”
وتخضع أي خطة تهدف إلى حصر السلاح لموازين القوى السياسية القائمة. وفي غياب توافق صريح ومعلن على الأهداف والوسائل، تبقى أي خطة عرضة للتعطيل، أو للتأجيل، أو للتفريغ التدريجي من مضمونها، وهذا ما يجعل الانتقال من الإطار النظري إلى التطبيق العملي مسألة شديدة الصعوبة.
بين المؤسسية والارتجال
انطلاقًا من هذا الواقع، يشدّد الحلو على ضرورة إخراج ملف حصرية السلاح شمال الليطاني من دائرة الارتجال السياسي ومن إدارته بردود الفعل. فالمعالجة. وفق مقاربته، يجب أن تنطلق من مسار مؤسساتي واضح ومحدّد المعالم، يعيد الاعتبار إلى آليات اتخاذ القرار داخل الدولة.
والمطلوب في هذا السياق، بحسب الحلو، “عقد مجلس وزاري مصغّر برئاسة رئيس الحكومة، يضمّ قائد الجيش ووزير الدفاع وقادة الأجهزة الأمنية الأساسية، تكون مهمته وضع تصور تنفيذي متكامل. هذا التصوّر يجب أن يحدّد بدقة الأهداف السياسية المرجوّة من المرحلة الثانية، والوسائل المتاحة لتحقيقها، وحدود استخدام القوة، وآليات التنسيق بين مختلف الأجهزة، إضافة إلى تقدير المخاطر المحتملة وسبل احتوائها. بعد ذلك، يُحال القرار إلى المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية، حيث يُتخذ القرار الرسمي بالتنفيذ، وتُحدَّد المسؤوليات السياسية والأمنية بشكل صريح”. وبرأي الحلو، “هذا المسار وحده كفيل بتأمين الغطاء السياسي اللازم للمؤسسة العسكرية، ومنع تحويل الجيش إلى طرف يتحمّل وحده كلفة قرار لم يُحسم سياسيًا“.
على المستوى العملي، لا يواجه الجيش اللبناني عائقًا بنيويًا يمنعه من الانتشار في المنطقة الممتدة بين الليطاني والأولي. فالألوية المنتشرة في الجنوب والوسط، والمدعومة بوحدات تدخّل ومخابرات، تمتلك القدرة على ضبط الأرض، ومنع المظاهر العلنية للسلاح، وفرض مستوى معيّن من الاستقرار الأمني.
التخويف الطائفي
في موازاة ذلك، يرفض الحلو مقاربة الملف من زاوية التخويف الطائفي داخل المؤسسة العسكرية. ويعتبر “أن الحديث عن احتمال انقسام الجيش على أساس مذهبي لا يستند إلى معطيات واقعية. فالتجارب السابقة أظهرت أن الجيش يعمل وفق تسلسل قيادي صارم، وأن التزام العسكريين مرتبط بوضوح القرار السياسي وبشرعيته، بعيدا عن انتماءاتهم الطائفية“.
غير أن هذا الالتزام يبقى مشروطًا بوجود قرار سياسي واضح وغير متناقض. فغياب القرار، أو تعدّد الإشارات السياسية المتضاربة، يضعف قدرة القيادة على فرض الانضباط الكامل، ويحوّل أي مهمة حساسة إلى مصدر توتّر داخلي غير مبرّر.
سيناريوهات المرحلة الثانية
في ضوء هذه المعطيات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار المرحلة الثانية من حصرية السلاح. الأول يتمثّل في تنفيذ تدريجي، يركّز على الانتشار العسكري وضبط السلاح تحت مراقبة اللاعبين الدوليين المؤثرين. الثاني يقوم على فتح مسار تفاوضي غير معلن، يربط أي تقدّم ميداني بترتيبات سياسية أوسع، داخلية أو إقليمية. أما السيناريو الثالث، فيقوم على تجميد عملي للتنفيذ، تحت ذريعة غياب التوافق السياسي، مع الإبقاء على الخطاب الرسمي من دون خطوات فعلية، وهذا ما قد يعطي الذريعة لإسرائيل لشن حرب موسعة.
أما خيار المواجهة المباشرة مع حزب الله، فيبقى مستبعدًا في ظل غياب قرار سياسي جامع، لما يحمله من مخاطر جدّية على الاستقرار الداخلي وعلى تماسك المؤسسات.
في المحصّلة، لا تمثّل المرحلة الثانية من حصرية السلاح اختبارًا لفاعلية الجيش اللبناني، بقدر ما تشكّل اختبارًا لقدرة الدولة على اتخاذ قرار سيادي واضح وتحمّل تبعاته. وبين التردّد السياسي والحسابات الداخلية المعقّدة، يبدو أن الجيش سيبقى، في المدى المنظور، أداة لإدارة التوازن القائم دون كسره، إلى أن يُحسم القرار في مكانه الطبيعي: داخل السلطة السياسية نفسها.
السلاح شمال الليطاني: اختبار للقرار السياسي وحدود التنفيذ .