في يوم عيد الميلاد، أطلّ رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون من بكركي بخطاب حمل عناوين مألوفة في الحياة السياسية اللبنانية مثل الدعوة إلى دولة المؤسسات وتأكيد حصر السلاح بيد الدولة والسعي إلى إبعاد شبح الحرب عن لبنان وتأكيد احترام مواعيد إجراء الانتخابات، غير أن القراءة المتأنية في مضمون التصريح تكشف أنه يندرج في إطار تكرار مواقف سابقة، من دون تقديم عناصر جديدة تتصل بآليات التنفيذ أو المهل الزمنية أو الضمانات السياسية والأمنية.
لغة عامة في لحظة دقيقة
جاء الخطاب في توقيت بالغ الحساسية، داخليًا وإقليميًا، ما كان يستدعي وضوحًا استثنائيًا في المواقف. إلّا أن الرئيس اكتفى بلغة عامة، أقرب إلى خطاب التطمين، من دون الانتقال إلى مستوى الإعلان العملي عن خطوات محدّدة. فالدعوة إلى “لبنان جديد” ودولة القانون تبقى عنوانًا فضفاضًا ما لم تُرفق بخريطة طريق واضحة المعالم.
في ما يتصل بحصر السلاح بيد الدولة، أكد الرئيس أن “القرار قد اتُخذ”، لكنه ربط التنفيذ بالظروف. هذا الربط يطرح إشكالية جوهرية، لأن السيادة لا يُفترض أن تكون مشروطة أو مؤجّلة. فمنذ أشهر، يتكرّر الإعلان نفسه بلا خطة واضحة ولا جدول زمني محدّد. القول إن “القرار اتُخذ” لا يضمن تنفيذًا فعليًا، خصوصًا في مواجهة “حزب” يمتلك قوّة ميدانية وسياسية لا يمكن تجاهلها، ويكرّر المسؤولون فيه يوميًا رفضهم القاطع التخلّي عن سلاحهم. فتكرار إعلان حصر السلاح من قبل الرئيس أو السلطة بشكل عام يبدو أقرب إلى إعلان نوايا منه إلى التزام قابل للتنفيذ ولا يندرج أبدًا في سياق الحديث الذي دار خلال الاجتماع الرباعي في باريس الأسبوع الماضي الذي جدّد ما تنتظره الدول الثلاث، الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية، ومعها أركان المجتمع الدولي وغالبية اللبنانيين، ألا وهو مطلب حصر السلاح كليًا بيد الدولة من دون استثناءات جغرافية أو زمنية، يضاف إلى ذلك خطر قيام إسرائيل بتوسيع دائرة عملياتها العسكرية إذا لم يتمّ حسم موضوع السلاح كليًا وفي فترة قريبة، ويزيد من هذا الخطر ما يمكن أن ينتهي إليه الاجتماع المرتقب بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في 29 الحالي.
يزيد استخدام الرئيس عون تعبير “وفقًا للظروف” الغموض في قراءة الخطاب السياسي الرسمي مع رئيس الحكومة نواف سلام القائل إن المرحلة المقبلة لحصر السلاح، ستبدأ قريبًا. اختلاف اللغة بين رأسي السلطة يفتح الباب أمام تساؤلات سياسية جدية: هل نحن أمام غياب تنسيق فعليّ في أحد أخطر الملفات السيادية، أم أمام توزيع أدوار محسوب، يراعي حساسيات داخلية وضغوطًا إقليمية متناقضة؟
السلام الموعود… بين التمني والواقع
أمّا في الشق الإقليمي، فقد أشار الرئيس إلى جهود دبلوماسية تهدف إلى إبعاد شبح الحرب، ملمّحًا إلى أن الأمور تتجه نحو نهاية إيجابية. غير أن الوقائع الميدانية لا تعكس هذا التفاؤل. فالخطر لا يزال قائمًا: هناك قصف إسرائيلي مستمرّ في جنوب لبنان، والتوتر الإقليمي لم يختفِ. القول إن الحرب “ابتعدت” يبدو أقرب إلى تمنٍ سياسي أو خطاب تطمين نفسي وليس توصيفًا دقيقًا لواقع ملموس تدعمه مؤشرات دولية أو إقليمية واضحة.
سياسيًا، يعكس خطاب بكركي رغبة واضحة في الحفاظ على توازن دقيق يقتضي طمأنة الداخل اللبناني، ولا سيّما المرجعيات، من دون الذهاب إلى مواقف حاسمة قد تُفسَّر كتصعيد داخلي أو إقليمي. غير أن هذا الخيار، وإن كان مفهومًا من زاوية إدارة المخاطر، يُبقي الملفات السيادية الكبرى في دائرة الغموض، ويؤجّل الانتقال من مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل. ولا يندرج في إطار تأمين “الظروف” لانعقاد مؤتمرات الدعم للجيش ولإعادة الإعمار.
في الخلاصة، لم يحمل تصريح الرئيس جوزاف عون من بكركي جديدًا نوعيًا بقدر ما أعاد تأكيد مبادئ عامة بات اللبنانيون يسمعونها منذ سنوات. في ظلّ استمرار التوتر الأمني، وتناقض الخطابات الرسمية، وغياب أيّ مؤشرات تنفيذية واضحة، يبقى الخطاب الرئاسي أسير النوايا الحسنة أكثر من كونه مدخلًا إلى حلول فعلية. وفي بلد يرزح تحت أزمات متراكمة، لم يعد كافيًا القول إن القرار اتُخذ، بل المطلوب توضيح كيف ومتى وبأيّ ضمانات؟
خطاب الميلاد الرئاسي تطمينات من دون ضمانات .