لم يكن سهلاً على الجيش اللبناني أنّ يشاهد كيف أقدمت إسرائيل على اغتيال أحد جنوده أثناء وجوده مع رفاقه في سيارة على طريق بلدة القنيطرة – قضاء صيدا. وأقصى ما أمكن فعله، في ضوء اختلال موازين القوى، هو التأهّب إعلامياً والعمل على إسقاط السردية الإسرائيلية التي قامت على أساس أنّ الجندي الشهيد علي عبد الله عنصر في مديرية المخابرات ويتعاون مع حزب الله. وقد تمّ ذلك عبر بيان رسمي صدر عن الجيش، قدّم خلاله روايته مرفقةً بدليل يثبت أنّ الشهيد عنصر في لواء الدعم – الفوج المضاد للدروع، وهو لواء لوجستي ذو مهام غير قتالية.
تأهب عسكري – سياسي
لاقى هذا التحرّك تجاوباً سياسياً، تُرجِم بتشكيل ما يشبه “منصّة مؤازرة وهجوم” هدفت إلى تفريغ الادعاء الإسرائيلي من محتواه. تجسّد ذلك في توجيه شكوى إلى “الميكانيزم” تضمّنت أشد عبارات الاستنكار والرفض، ومدعومة برواية متماسكة. ومن جهة ثانية، جرى التوجّه إلى سفراء الدول الغربية، وتحديداً تلك المشاركة في “الميكانيزم”، لتسويق الرواية اللبنانية الرسمية للحادث.
وهكذا، قام الهدف المركزي على إسقاط الرواية الإسرائيلية التي يُراد عبرها الاستثمار في اتهام الجيش وتبرير مهاجمته. وقد لمسَ المسؤولون حرص عدد من السفراء الغربيين على دور المؤسسة العسكرية وصورتها، وهو ما سمح بالقول إنّ العاصفة مرّت بأقلّ أضرار ممكنة.
أبعد من اغتيال جندي
أساساً، يعاني الجيش من ضغوط واتهامات إسرائيلية متواصلة، ولا يحتاج إلى هذا النوع من الادعاءات الهادفة إلى تشويه صورته وضرب مصداقيته أمام الداخل والخارج. والأهم أنه لا يريد زرع أسباب إضافية قد تؤثر على عمله وآليات دعمه المحتملة التي تشكّل عصب مهمته جنوباً.
عملياً، لا يمكن وضع استهداف الجندي الشهيد إلا في إطار أوسع، يتمثل أوّلاً في تهديد عناصر الجيش مباشرة، وثانياً الإيحاء بأن المؤسسة العسكرية مخترَقة، وثالثاً تظهير المكوّن الشيعي في الجيش باعتباره فاقد الولاء لمؤسسته، وأنّ وجوده ضمن الجيش جنوب النهر يشكّل امتداداً لوجود حزب الله. يُضاف إلى ذلك أن هذا المكوّن بات مستهدفاً بضباطه وجنوده، تماماً كما يتعرض لاستهداف مالي واجتماعي عبر المؤسسات المرتبطة بالحزب.
أما الرسالة الأهم، فهي أن التصرف الإسرائيلي يأتي كرسالة ذات أبعاد عسكرية موجّهة إلى الجيش تحديداً، وخصوصاً بعد حادثة بلدة يانوح، ونجاح الجيش في إسقاط مزاعم وجود مخزن سلاح داخل منزل مدني، وتعطيل آلية استهداف المنزل، بعد تهديد المتحدث العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، وهو ما يحصل للمرة الأولى.
كما يرتبط الاستهداف العسكري بإطار أوسع يتزامن مع اجتماع باريس التحضيري لمؤتمر دعم الجيش المتوقع انعقاده خلال شباط المقبل، والمرجّح أن يوفر أموالاً للتطويع وتأمين المعدات اللوجستية. فالرسالة هنا موجّهة إلى الخارج أيضاً، ومفادها أنّ الجيش المراد دعمه “مخترق” من حزب الله، وأن ثمة عناصر داخله تنشط في صفوف الحزب. وبالتوازي مع عرقلة انتشار الجيش في القرى الحدودية، تعمل إسرائيل على تطويقه وقطع الطريق أمام أي دعم أو أموال قد تصل إليه.
خشية من تحوّل الجنود إلى أهداف
المسألة الأخطر بالنسبة إلى الجيش، والتي استدعت تأهّبه، هي احتمال تحوّل ضباطه وجنوده إلى أهداف متحركة تحت ذرائع واهية، تماماً كما هو الحال مع عناصر الحزب الذين يُستهدفون بدم بارد أثناء تنقلهم وفي قراهم.
وفي المقابل، ليس سهلاً على الجيش أن يجد نفسه — بالتوازي مع وجود خصوم داخل الكونغرس والإدارة الأميركية يتبنّون نظرية التصاقه بالحزب — أمام سردية جديدة يجري البناء عليها، ما يزيد عليه عبئاً إضافياً في شرح حقيقة موقفه وإثبات خلوّ الاتهامات من أي مضمون.
وإلى جانب ذلك، ثمة قضية داخلية لا تقل أهمية. فجزء من اللبنانيين ينظر إلى الجيش باعتباره الجهة التي ستتولى نزع سلاح المقاومة، فيما يستفزّ آخرين مشهد دخول الجيش مخازن ومواقع تابعة للمقاومة. في حين يرى فريق ثالث، رغم مسار عمل الجيش، أنه لا يقوم بما يكفي لحصر السلاح، بل ويتهمه بالعجز أو بعدم الرغبة، كما تعبّر بعض القوى السياسية. وبالتالي، فإن استهداف الجيش بالشكل الذي حصل في القنيطرة قد يعزز لدى البعض سردية أن الجيش فعلاً «ممسوك» من الحزب، أو أن عناصر منه تعمل في صفوفه.
شمال الليطاني: الاختبار الأصعب
ليست هذه القضية وحدها ما يشكل ضغطاً على البلد، ومنه المؤسسة العسكرية. فالسياسة هنا تتقدّم على الأمن، ومسألة الانتقال إلى شمال الليطاني لا يمكن التعامل معها كحدث عادي.
صحيح أن الجيش يقول إنه جاهز لتقديم تقريره الرابع — وربما الأخير — حول مهمته جنوب الليطاني، معلناً انتهاءها، لكنه في المقابل يتريث ويستكمل درس الملف لإحكام إمساكه من مختلف جوانبه، في ظل نصائح تُسدى إلى الحكومة لإعطاء المهمة مهلة إضافية تحت عنوان “استمرار الفحص”، قطعاً للطريق على الذرائع الإسرائيلية الجاهزة. ومن الناحية التقنية، يؤكد الجيش أنه قام بما طُلب منه وفق قراري الحكومة الصادرين في 5 و7 آب الماضيين. لكن تمديد المهلة (وهو أمر ما يزال مطروحاً بقوة) أو الانتقال إلى شمال الليطاني، هما قراران تتخذهما الحكومة اللبنانية، وليس على الجيش سوى التنفيذ.
قلق من تسرّع نواف سلام
ثمة شعرة رفيعة تفصل بين ما يريده الجيش وما تريده الحكومة. وليس سراً أن المؤسسة العسكرية، التي اختبرت مناخ العمل جنوب الليطاني في ظل اتفاق سياسي، تُفضّل الوصول إلى اتفاق سياسي موازٍ يضمن عملها شمال الليطاني قبل تكليفها بأي مهمة هناك. وفي ظل ارتفاع النقاش حول الانتقال إلى شمال الليطاني، تسود خشية من وجود مراهنين على انزلاق الأمور نحو مواجهة بين الحزب والجيش — ليس بالضرورة عسكرية، بل ربما شعبية.
من هنا يمكن فهم موقف رئاسة الجمهورية من بكركي، الداعي إلى التعاطي بحذر وهدوء مع مسألة حصر السلاح وفقاً للظروف. ويمكن تصنيف موقف الرئيس جوزاف عون كردّ فعل واضح على كثير من المواقف التي تُطلق، ولا سيما ما صدر عن رئيس الحكومة نواف سلام الذي أعلن مسبقاً — ومن دون تنسيق مع الرئاستين الأولى والثانية — المضي في العمل شمال الليطاني، حتى قبل مراجعة الجيش وانتظار تقريره.
ورغم كل الكلام، لا يمكن إنكار وجود انزعاج من هذا الموقف، خصوصاً أن استراتيجية الرئاسة الأولى — المتفق عليها مع عين التينة — كانت تقوم على استخدام ورقة انتهاء العمل جنوب الليطاني لتحصيل مكاسب عسكرية تتمثّل بانسحاب إسرائيلي موضعي من بعض النقاط. لكن ما ظهر لاحقاً هو أن الجيش الإسرائيلي ليس في وارد الانسحاب حالياً، بل يربط أي حركة عسكرية في جنوب لبنان بما يجري جنوب سوريا، حيث تقوم استراتيجيته الحالية على ربط ما يسمى “جبهات الدفاع الجغرافية” بعضها ببعض، ونقل ما يسميه “خطوط الحماية” إلى “أرض العدو”.
الجيش على خطّ التوتر: من جنوب النهر إلى شماله .