ما مصير «خرائط الظل» من لبنان إلى العراق؟

army-lebanon-pic-2021-houjoum-1

مع انطلاق سنة 2026، يبدو الشرق الأوسط رازحاً تحت وطأة الانقلاب الثلاثي: نهاية «حماس» في غزة، تلاشي نفوذ «حزب الله» في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا. ومع أنّ سقوط الأسد قبل عام، جاء في آخر الترتيب، وكان الأسرع والأقل دموية، فقد كان في الواقع الخسارة الأكثر فداحة لمحور طهران، إذ شكّل انكساراً لعموده الفقري، وبه تحوّل لبنان جزيرة معزولة جغرافياً عن طهران، ومكشوفة سياسياً، وتحت ضغوط دولية غير مسبوقة لنزع السلاح. فأي اتجاه ستسلكه كيانات الشرق الأوسط في ظل هذا التجاذب الشرس؟

في لبنان والعراق، تدور اليوم معركتان متزامنتان، وتحملان عنواناً واحداً: نزع سلاح الميليشيات الشيعية الموالية لإيران. وبات مؤكّداً أنّ هناك ترابطاً وثيقاً بين المعركتين من حيث المسار والنتائج. وثمة يد واحدة تمارس الضغط في هذا الاتجاه، هنا وهناك، هي واشنطن.

 

في بغداد، يربط الأميركيون دعمهم الاقتصادي وتعاونهم الأمني بمدى جدّية حصر السلاح بيد الدولة. وتقوم فصائل موالية لإيران هناك بإبداء مرونة تكتيكية، معلنة استعدادها لدمج سلاحها بالدولة، لا اقتناعاً ولا رغبةً في تقوية الدولة، بل خوفاً من خيار عسكري عقابي يلوّح به الأميركيون، ويبدو أكثر جدّية يوماً بعد يوم. ولكن، في الموازاة، تعلن «كتائب حزب الله» العراقية رفضها الصريح لتسليم السلاح، وهي على الأرجح تراهن على «فوضى منظّمة» قد تعيد خلط الأوراق، نتيجة فشل الحكومة في إرساء توازن معين، بين مطالب واشنطن وشروط طهران.

 

ولكن، في الأساس، يبقى لبنان المختبر الأكثر تعقيداً في هذه المسألة، حيث «حزب الله»، الذي أُصيب بخسائر مريعة نتيجة الحرب وبعدها، وفَقدَ شريانه الحيوي بسقوط الأسد، سيواجه في سنة 2026، أكبر التحدّيات العسكرية والأمنية والسياسية والمالية، على رغم من كونه معزولاً أو «منقطع الجسور» لوجستياً.

 

ومع اقتراب تفويض قوات «اليونيفيل» من نهايته، خلال السنة المقبلة، يمارس الأميركيون والإسرائيليون ضغوطاً متصاعدة لنشر الجيش اللبناني كقوة وحيدة في الجنوب. وترى واشنطن في هذه اللحظة فرصةً تاريخية لتحقيق هذا الهدف. وأما إسرائيل، فليس واضحاً أي تخطيط تخبئه للجنوب ولبنان، فيما هاجس «حزب الله» الوحيد هو الحفاظ على ما بقي من سلاحه، لأنّ نزعه سيكون في اعتقاده بمثابة انتحار استراتيجي.

 

وفي هذا الخضم، بدأت تطفو على السطح في لبنان أزمة ليس واضحاً إلى أي مأزق سوف تقود علاقاته بسوريا. ففيما تتعثر المحاولات بين الحكومتين لحل مشكلة الموقوفين السوريين في لبنان والمفقودين اللبنانيين في سوريا، ظهرت قنبلة «بقايا النظام» على الأراضي اللبنانية. وتدور أحاديث في سوريا عن وجود المئات أو الآلاف من الضباط والجنود، الذين كانوا ينتمون إلى نظام الأسد، يتمّ إيواؤهم في المناطق التي يحميها «حزب الله». ويُقال إنّ هؤلاء ربما يتمّ استخدامهم «خزاناً بشرياً» ذا خبرة قتالية في سوريا عند الحاجة. لكنهم أيضاً قد يشكّلون عنصر تفجير، في أي تصفية حسابات سورية ـ سورية، أي بين هؤلاء والغالبية من النازحين السوريين، على أرض لبنان.

 

في ضوء هذه الوقائع، تنطلق الكيانات الشرق أوسطية في سنة 2026 على تحدّيات عميقة: هل ستحافظ على طبيعتها وحدودها القائمة منذ 100 عام، وتفرض الحكومات المركزية سيادتها عليها، أم إنّ هذه الكيانات ستشهد تكريساً للتحولات الجيوسياسية التي تعصف بها منذ عقود عدة؟

 

يقول بعض الخبراء، إنّ واشنطن لا ترغب في زعزعة الحكومات، ولذلك تريد حل الميليشيات التي تدعمها إيران، من غزة إلى لبنان فالعراق. لكن واشنطن نفسها هي التي تدعم الأكراد في الشمال الشرقي لسوريا، كـ«سدّ أمني» يمنع عودة «داعش» ويقطع الطريق على أي طموح تركي ـ إيراني. وفي الموازاة، تدعم إسرائيل واقعاً شبه استقلالي للدروز في السويداء، بهدف خلق «منطقة عازلة» بشرية تضمن أمن حدودها الشمالية، بعيداً من سيطرة أي حكومة مركزية في دمشق، ربما تقع تحت تأثير تركي أو إسلامي. وفي الأيام الأخيرة، دارت أحاديث عن تواصل جغرافي وتعاون ميليشيوي ومالي بين السويداء والمنطقة الكردية.

 

هذا يعني أنّ النزاع الذي سيتبلور مع مطلع السنة الجديدة، سينحصر بين خيارات الدول المركزية وخيار التفكك المعلن أو المستتر لهذه الكيانات. وفي عبارة أخرى، التحدّي ليس محصوراً بنزع السلاح، بل هو نزاع حول مفهوم الدولة. فالمشروع الأميركي يسعى إلى إعادة إنتاج دول ذات جيوش مركزية، لتسهيل عمليات التطبيع والاستقرار الاقتصادي مع إسرائيل، فيما المشروع الإيراني يحاول الحفاظ على «أشباه دول» تضمن له البقاء في اللعبة. وأما المشروع الإسرائيلي فيريد الاستثمار في دول ضعيفة مركزياً، ومقسمة إلى مناطق نفوذ طائفية وعرقية تضمن عدم قيام جبهة عربية موحّدة ولو بعد عشرات السنين. وستكون سنة 2026 هي سنة الحسم أو المعركة الصعبة في هذا الاتجاه. فهل تنجح الحكومات المركزية في تذويب الميليشيات أو تطويعها، أو تستمر هذه الميليشيات كشركات أمنية طائفية تدير «خرائط الظل» السائدة حالياً، والتي ربما تتحول خرائط واضحة ورسمية فوق الأنقاض؟

ما مصير «خرائط الظل» من لبنان إلى العراق؟ .

Facebook
WhatsApp
Telegram
X
Threads
Skype
Email
Print