يُسجّل لبنان أعلى معدل إصابة بسرطان الرئة بين النساء، وثاني أعلى معدل بين الرجال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع ارتفاع ملحوظ في المعدلات وذلك وفق رئيس اللجنة المكلفة بمتابعة تطبيق الخطة الوطنية لمكافحة السرطان الدكتور عرفات طفيلي. ويُعدّ سرطان الرئة من أكثر أنواع السرطان شيوعًا في لبنان، إذ يُمثل أكثر من 9 % من حالات السرطان الجديدة، ولا يسبقه في ذلك سوى سرطان الثدي.
الأرقام إلى تصاعد
لكن سرطان الرئة رغم خطورته هو من السرطانات القليلة التي يمكن الوقاية منها بشكل فعّال. والمعادلة واضحة: التدخين على أنواعه هو المسبّب الأول لسرطان الرئة والامتناع عنه يخفض نسبة حدوث السرطان حتى 90 %.
لا شك أن التعامل مع سرطان الرئة يحتاج إلى خطة متكاملة تتضمّن جوانب مختلفة، يقول د. طفيلي، بدءًا بالتشخيص المبكر واعتماد طرق رصد جديدة، مرورًا بتحديد نسب الإصابات لتفعيل وضع الخطط وصولًا إلى اعتماد بروتوكولات العلاجات وطرق العناية الملطفة. لكن يبقى الجانب الأهم في الخطة والقادر حقًا على إحداث فرق حقيقي، هو الوقاية ونشر التوعية حول مخاطر التدخين، كونه يأتي في المرتبة الأولى بين كلّ المسبّبات الأخرى لسرطان الرئة، ومن بينها التلوّث وبفارق كبير. من هنا، عمدت وزارة الصحة اللبنانية إلى اتخاذ خطوات عدة للتوعية حول سرطان الرئة ومسبّبه الرئيسي التدخين بهدف الحدّ منه وتأمين وسائل التشخيص المبكر والعلاجات اللازمة الأكثر تقدّمًَا وفاعلية للتخفيف من تداعياته.
ويضيف د. طفيلي: “صحيح أن معدّلات الإصابة ترتفع مع التقدّم في السن، لتصل إلى ذروتها لدى كبار السن فوق 70 عامًا، لكن تُلاحظ اليوم اتجاهات تصاعدية في جميع الفئات العمرية ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى ارتفاع معدلات تدخين السجائر التقليدية والإلكترونية، والنرجيلة، والتعرّض إلى التدخين السلبي، لا سيّما بين الأطفال. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مخاطر التدخين السلبي، حيث إن وجود شخصين مدخنين إلى جانب شخص غير مدخن يجعله عرضة للمخاطر ذاتها كما لو أنه مدخن. ومن هنا أهمية التوعية في المدارس، لا لحث المراهقين على عدم البدء بالتدخين فحسب، بل لدفعهم إلى توعية الأهل المدخنين حول ضرورة التدخين خارج البيت في الهواء الطلق. ويأتي تلوّث الهواء الناجم عن المولّدات ليشكّل عاملًا إضافيًا في التأثير على سرطان الرئة. ولكن في حين أن حلّ التلوّث سياسي بامتياز عبر تأمين الطاقة بغية التخفيف من استخدام المولّدات، إلّا أن التدخين يبقى مفعوله مساويًا لكلّ الأسباب الأخرى المؤدية للسرطان والامتناع عنه قرار شخصي بحت”.
هذه المعطيات تؤدي إلى طرح عدّة أسئلة مشروعة : كيف أعطيت رخص جديدة لمقاهٍ تقدّم النرجيلة في الداخل، في حين أن قانون منع التدخين في الأماكن العامة المقفلة واضح وصريح؟ من أعطى هذه الرخص ومن يراقب المقاهي والمطاعم؟ كيف نبتت ونمت دكاكين تأجير النرجيلة؟ من أين استحصلت على رخصها هذا إذا كانت مرخصة؟ وكيف يتم تأجير النرجيلة أو بيع السجائر دون التحقق من عمر الأشخاص الذين يطلبونها؟ أين وزارات الداخلية والسياحة والاقتصاد من هذا الخطر؟
الوقاية ممكنة والرسوم ضرورية
أدركت وزارة الصحة مخاطر التدخين، وعملت على إطلاق حملة توعية واسعة في شهر تشرين الثاني حملت عنوان “مع كل نفَس بتخسر نَفِس”. وذهبت أبعد من الحملات الإعلانية، لتصل إلى المدارس حيث اجتمعت مع عدد كبير من مديري المدارس لإطلاق حملة توعية مع طلاب الصف السابع حول خطورة التدخين لا سيّما بعد أن تبيّن وفق الإحصاءات أن حوالى 28 % من المراهقين في لبنان باتوا من المدخنين، كما أكد وزير الصحة ناصر الدين إثر دراسة تمّ إجراؤها حول صحة المراهقين في لبنان.
الوزير ناصر الدين وفي إطار مداخلته على هامش توقيع مذكرة التفاهم بين الوزارة وشركة أسترازينيكا أكد أن السجائر في لبنان هي الأدنى سعرًا في العالم قائلًا إن قانون التغطية الصحية الشاملة الذي يتمّ العمل عليه مع لجنة الصحة النيابية، لا بدّ أن يشمل فرض ضرائب ورسوم عالية على المواد الضارة مثل الدخان والكحول والمشروبات المحلّاة، تؤمّن مدخولًا ماليًا للدولة اللبنانية، يتيح لوزارة الصحة تأمين التغطية الصحية الشاملة. ففي حين لا تتعدّى موازنة وزارة الصحة اليوم 8،5 من مجموع الموازنة العامة، وهي غير كافية لتأمين التغطية الصحية، يبقى الحلّ الوحيد البعيد من الترقيع، إيجاد مصادر تمويل جديدة لوزارة الصحة. لكن فرض رسوم جديدة يحتاج إلى قرار سياسي جريء وحكيم.
وزارة الصحة وحدها كما يقول د. طفيلي، ليست قادرة على إتمام خطة الوقاية والعلاج، وهي بحاجة أوّلًا، إلى تعاون وثيق مع الوزارات الأخرى. وثانيًا، مع القطاع الخاص أي شركات الأدوية الكبرى القادرة على تقديم الخبرات العلمية والتقنية المطلوبة. فالتعاون مطلوب أوّلًا مع وزارة السياحة لمنع التدخين في المطاعم وتشديد تطبيق القانون الصادر في هذا الشأن، وكذلك مع وزارة البيئة للحدّ من تلوّث الهواء ووزارة الزراعة للحدّ من تلوّث مجرى نهر الليطاني وغيره من الأنهار والمياه الجوفية ومع وزارة الطاقة للتخفيف من استخدام المولّدات والحدّ من انبعاثاتها. ومطلوب من مجلس النواب أيضًا ومن لجنة الصحة متابعة هذا الموضوع عن كثب.
إن القطاع العام وحده وبقدراته المالية والإنسانية المتواضعة غير كافٍ. فرغم كلّ ما تقوم به وزارة الصحة من جهود، هي بحاجة للتعاون مع القطاع الخاص، وخاصة شركات الأدوية بما تملكه من خبرات علمية وتسويقية لإنجاح حملات التوعية وجعلها تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، والاستفادة من الأبحاث والخبرات العلمية لهذه الشركات.
التشخيص المبكر الطريق إلى الشفاء
إلى جانب الوقاية، يعتبر التشخيص المبكر الخطوة الثانية في الحدّ من تداعيات سرطان الرئة. ولكن على خلاف حملات التصوير الشعاعي للثدي، التي باتت ممنهجة وتخضع لهيكلية مؤسساتية واضحة تساهم فيها وزارة الصحة بالتعاون مع عدد كبير من المستشفيات في مختلف أنحاء لبنان، فإن تشخيص سرطان الرئة أكثر تعقيدًا وفق ما يقول د. طفيلي، ولم يصبح بعد خطة معمّمة، بل لا يزال في مرحلة تجريبية اعتمدها مستشفى الجامعة الأميركية ولم تثبت فاعليتها بعد. فالتشخيص المبكر الذي يعتمد على ما يعرف باسم: Low-dose CT Scan القادر على اكتشاف سرطان الرئة حتى قبل ظهور أية إشارات أو أعراض لا يمكن تعميمه على الجميع كما هي الحال مع التصوير الشعاعي للثدي بل يجب أن يخضع له المدخنون ذوو الخطورة العالية، مع تحديد العمر وتاريخ البدء بالتدخين وعدد السجائر التي يدخنونها يوميًا. ويجب أن ينخرط ذلك ضمن خطة واضحة تبدأ برغبة المدخن في الاستجابة لها حيث يجلس مع مستشار خاص يساعده في التوقف عن التدخين بواسطة الدعم النفسي ومواد مساعدة، ليصار بعد ذلك إلى إجراء الـ scan وبعدها يجب متابعة النتائج ومراقبة أي تطوّر يحصل. أما إجراء الـ scan وحده فلا يؤدّي إلى نتائج ملموسة كما أثبتت التجارب حتى اليوم.
| مذكرة تفاهم بين وزارة الصحة اللبنانية وشركة أسترازينيكا
وقعت وزارة الصحة العامة في لبنان مذكرة تفاهم مع شركة أسترازينيكا لإطلاق مبادرة وطنية شاملة تهدف أوّلًا، إلى تعزيز الوقاية من سرطان الرئة وزيادة الوعي العام، وإلى تنسيق وإطلاق حملات وطنية شاملة حول سرطان الرئة وعوامل الخطورة القابلة للتعديل ونشرها عبر المنصات الوطنية. وكذلك، إلى بناء القدرات التشخيصية والعلاجية وتدريب الكوادر الصحية وتعزيز تبادل المعرفة محليًا ومع مراكز التميز في الشرق الأوسط وأفريقيا لدعم تحسين جودة الرعاية. وشدّدت المذكرة على إطلاق برنامج رائد للفحص المبكر لسرطان الرئة، تمهيدًا لإدراجه في خطة مكافحة سرطان الرئة. إضافة إلى المساهمة في توليد البيانات الصحية اللازمة لتوجيه التخطيط، واتخاذ القرار وتطوير منظومة رعاية سرطان الرئة في لبنان وتوفير وصول عادل للفحوصات والتشخيص والعلاج لجميع المرضى في مختلف المناطق. وتأتي هذه المبادرة انسجامًا مع الخطة الوطنية الخمسية لمكافحة السرطان 2023– 2028 لدى وزارة الصحة العامة وانسجامًا مع توجهاتها الصحية وسياساتها الوطنية. وقد رحّب وزير الصحة الدكتور ركان ناصر الدين بهذا التعاون الذي يعزز قدرات النظام الصحي المتعب على مواجهة سرطان الرئة. وأكد أن الوزارة اليوم تعمل على إنفاق كل قرش يدخل إليها من أجل تحسين الوضع الصحي في لبنان. وهي مستعدة للتعاون مع كلّ الشركات الراغبة في الاستثمار بصحة اللبنانيين والتي تتكامل أهدافها مع أهداف وزارة الصحة. وشرح د. ناصر الدين في هذا الإطار أن كل دولار تنفقه الوزارة لتعزيز الوقاية من الآفات الخطرة وأبرزها التدخين يكسب الدولة 12 دولارًا ما يؤمن وفرًا واضحًا في مجال الصحة. وقد وسّعت الوزارة بروتوكولاتها العلاجية ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في السابق وزادت من معدل الأدوية العائدة إلى شركات عالمية إلى 75 % كونها استطاعت خلق منافسة مثمرة بين الشركات ضمن جو من الشفافية بعيدًا من الربح المادي. من جهته، قال رامي اسكندر، رئيس منطقة الشرق الأدنى والمغرب العربي في شركة أسترازينيكا: “يشرفنا التعاون مع وزارة الصحة في لبنان لدعم المبادرات الوطنية لرعاية سرطان الرئة عبر تعزيز الوعي العام، وبناء القدرات، والكشف المبكر المستند إلى الأدلّة. يرتكز تعاوننا على الابتكار العلمي والالتزام بالعدالة الصحية بما يتيح وصولًا عادلًا للتشخيص المبكر والفحوصات الجزيئية والعلاجات الحديثة للمرضى في مختلف أنحاء لبنان، ويدعم مرحلة انتقالية تُحسن النتائج وتقلّص الفوارق في الوصول إلى الرعاية”. |
سرطان الرئة… الأرقام مقلقة .