ليست صفقة الغاز الموقعة بين مصر وإسرائيل، بقيمة نحو 35 مليار دولار، مجرّد اتفاق اقتصادي لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى السوق المصرية، بل تشكّل محطة سياسية واستراتيجية مفصلية في لحظة إقليمية شديدة الدقة، حيث تتقاطع ملفات الطاقة مع الأمن، والتحالفات، وإعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.
على المستوى التقني، يرتكز الاتفاق على تصدير الغاز المستخرج من حقل ليفياثان الإسرائيلي إلى مصر، حيث يُعاد تسييله وحتى قد يُصدّر بعد حين إلى أوروبا. لكن ما خلف الأرقام، هو مشهد أوسع. مشهد شراكة طويلة الأمد ترسّخ واقعًا إقليميًا جديدًا تُصبح فيه الطاقة أداة نفوذ لا تقلّ أهمية عن القوة العسكرية.
يأتي هذا الاتفاق في توقيت بالغ الحساسية، في ظلّ هشاشة وقف النار في غزة، فضلًا عن ساحات التوتر الإقليمية، خصوصًا في جنوب لبنان، وتصاعد القلق الأوروبي من أمن الطاقة. ورغم هذا المشهد المضطرب، اختارت القاهرة وتل أبيب تعزيز التعاون بدل تجميده، في رسالة سياسية واضحة مفادها أن المصالح الاستراتيجية الكبرى قادرة على الصمود حتى في ذروة الأزمات.
بالنسبة إلى مصر، تكرّس هذه الصفقة دورها كلاعب محوري في معادلة الطاقة في شرق المتوسط. فالقاهرة لا تكتفي بدور الدولة المستورِدة، بل أكثر من ذلك، قد تتحوّل إلى مركز إقليمي لتسييل الغاز وتصديره، مستفيدة من بنيتها التحتية المتقدّمة وموقعها الجغرافي، وعلاقاتها المتوازنة مع الولايات المتحدة وأوروبا. بهذا المعنى، تصبح مصر حلقة الوصل الأساسية بين الغاز الإسرائيلي والأسواق الأوروبّية، في لحظة يبحث فيها الاتحاد الأوروبي عن بدائل مستدامة للغاز الروسي.
أمّا إسرائيل، فتمنحها الصفقة ضمانة اقتصادية وسياسية مزدوجة: سوق ثابتة لتصريف إنتاجها من الغاز، وبالتالي تحقيق أرباح هائلة. كما تمنحها الصفقة موقعًا متقدّمًا في منظومة الطاقة الإقليمية، وقدرة على تحويل الموارد الطبيعية إلى ورقة تأثير سياسي، ولا سيّما في علاقتها مع الغرب.
لكن البُعد الأعمق لهذه الصفقة يتجلّى في بعدها الجيوسياسي. فالتعاون الاقتصادي بين مصر وإسرائيل، في ملف الغاز تحديدًا، يشكّل أداة ضغط غير مباشر في مواجهة ما يُعرف بـ “الهلال الإيراني”، إذ إن بناء شبكات طاقة إقليمية قائمة على المصالح المتبادلة والاستثمارات طويلة الأمد، يساهم تدريجيًا في تجفيف بيئات النفوذ الإيراني التي لطالما ازدهرت في فراغ أو إفراغ الدولة، والاقتصادات الهشة، وحالات عدم الاستقرار.
في هذا السياق، لا يُفصل تصدير الغاز عن هندسة إقليمية جديدة، تقوم على ربط الدول بشبكات مصالح يصعب تفكيكها. فكلّما توسّع التكامل الاقتصادي، تراجعت قدرة القوى المدعومة من طهران على فرض منطق السلاح والفوضى، مقابل منطق الدولة والاستثمار.
المرحلة المقبلة مرشحة لمزيد من هذا النوع من التعاون، سواء عبر توسيع الاستثمارات في حقول شرق المتوسط، أو من خلال ربط مشاريع الغاز بمبادرات أوسع تشمل الكهرباء، والنقل البحري، والتبادل التجاري. وكلّ توسّع في هذه الدائرة يعني عمليًا تقليص هامش المناورة أمام المشروع الإيراني في المنطقة، من دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة.
هذا المسار يحظى أيضًا بدعم أميركي وأوروبي واضح، باعتباره يشكّل بديلًا استراتيجيًا طويل الأمد عن نفوذ إيران، يستند إلى الاقتصاد بدل الحرب، وإلى الاستقرار بدل الأزمات المفتوحة. فالطاقة هنا تتحوّل إلى أداة سياسية ناعمة، تُعيد ترتيب موازين القوى بهدوء ولكن بفعالية.
في الخلاصة، صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل ليست حدثًا اقتصاديًا عابرًا، بل إشارة سياسية كبرى إلى اتجاهات المنطقة المقبلة. شرق المتوسط يُعاد تشكيله اليوم بالغاز، وبشبكات المصالح، وبالتحالفات الاقتصادية، في توقيت إقليمي بالغ الحساسية. وفي هذا المشهد، يبدو واضحًا أن معركة النفوذ لم تعد تخاض فقط بالصواريخ… بل أيضًا بالأنابيب.
“دبلوماسية الأنابيب” كقوة ناعمة… الطاقة تعيد ترتيب المنطقة .