السؤال كما هو، مطلقٌ على عواهنه، ولا يمكن له أن يكون مؤجّلاً، بات بحكم المجريات اليوميّة جزءاً من السيرة اللبنانيّة. وهو يقولُ إنّ الزمن السياسي لدى الشيعة اللبنانييّن يدور في حلقة مغلقة. ما الذي ينتظر الشيعة اليوم؟ إلى أين ستذهب الجماعة التي رُبط مَصيرها، أمنيًا وسياسيًا ودينياً، بخيار واحد قُدِّم طويلًا بوصفه قدرًا لا يُناقش؟
لا يمكن إنكار ما مثّله السلاح في لحظة تاريخية محددة. لكن تحويل تلك اللحظة إلى أبدية سياسية هو ما أوصل الشيعة إلى مأزقهم الراهن. يمكن القول إنّ الشيعة اليوم، لا يعيشون فائض قوة؛ إنّما فائضاً في كلفة الانخراط في صراعات إقليمية لا يملكون قرارها، وكلفة العيش في دولة منهارة لا تملك القدرة على مساءلة من يقرّر باسمهم. بين هاتين الكلفتين، يتآكل المعنى السياسي، ويُستبدل النقاش بخطاب تعبوي يقدّمه الحزب بوصفه الممثل الأكبر للطائفة. والمعضلة أنّ هذا التقديم مقرون بمطالبة حثيثة بالصبر بدلاً من تقديم أفق أو طرح فعلي.
يتحمّل الحزب، بوصفه القوة الأبرز داخل البيئة الشيعيّة، مسؤولية مركزية في هذا المسار. فهو من جهة يعلن عدم ثقته بالدولة، لكنه في الوقت نفسه يمنع قيامها. يستخدم مؤسساتها حين تخدمه، ويُفرغها حين تحاول أن تكون مرجعيّة بعيداً منه. في فلك هذه الازدواجية يتحرّك الحزب بمعزل عن أيّ فكرة من شأنها بناء الدولة أو حماية الجماعة.
حزب الله وأمل
ثمّة تباينات تُدار داخل البيئة الشيعية نفسها، أبرزها العلاقة بين حركة أمل وحزب الله. لا يمكن حصرُ الموضوع في أنّه اختلاف في الأساليب، أو الطرق في إدارة الملفات السياسيّة المستجدة يومياً على الطائفة. يمكن القول وبصراحة إنّه اختلاف في الوظيفة الفعليّة لكلّ منهما. أمل، تاريخيًا، تموضعت داخل الدولة تُدير السّلطة والتمثيل والوساطة. في حين تموضع الحزب فوق الدولة، بوصفه قوة عقائدية/أمنية عسكريّة، أولويتها الصّراع مع إسرائيل دون أي التفاتة لعمليّة بناء المؤسسات. اليوم، هل يمكن أن نسأل عن تباين نبيه بري مع الحزب؟ ربما يكون هذا السؤال ليس تفصيلاً بمقدار ما هو إدراك براغماتي بأنّ الطائفة التي يُروّج لها بوصفها مأزومة قد تفقد الدولة قدرتها على التفاوض وحماية مكتسباتها.
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة في الأوساط السياسية، عن إمكانيّة خلق شرخ بين الطرفين. الشرخ موجود لكنه مضبوط وربما مدوزن. ليس من شيء يمنعُ انفجاره إلا معرفة بري العميقة وخوفه من الكلفة المترتبة على الانفصال. يعرف بري حدود قوّة أمل ودورها المستجد بعد حرب الإسناد. في الوقت الذي يعرف الحزب أنّ كسر الاحتكار التمثيلي يحول سلاح الحزب من “قضية وطنية” إلى عبء داخلي. ورغم ذلك كلّه نجدُ أنّه كلما تآكلت الدولة زادت حاجة أمل إليها، وكلما تورّط الحزب أكثر في صراعات المحور والداخل اتّسعت الفجوة بين خطابه والواقع الشيعي، وبالتالي الوطني.
من هنا يبرز السؤال الأكثر حساسية: هل سيستطيع الشيعة التفاوض سياسيًا على مستقبل الطائفة، بدل البقاء أسرى معادلة السلاح؟ هنا أيضاً تبرز أسئلة وطروحات. هل يعني التفاوض الاستسلام؟ الحديث الذي يروّج له اليوم هو تحويل فائض القوة إلى مكتسبات مستدامة داخل الدولة: ضمانات دستورية وسياسية، شراكة فعلية في القرار، استراتيجية دفاعية وطنية تُنهي الاستثناء، واستعادة كاملة للحقوق الاجتماعية والإنمائية التي تآكلت تحت عنوان “الأولوية الأمنية”.
في الأوساط الشيعيّة، قد يكون الحديث عن تسليم السّلاح خارج صفقة سياسية متكاملة هو عبث. لكن الإصرار على السلاح من دون أفق تفاوضي هو عبث أكبر. هذا الحديث قد يعني ضرورة الانتقال الجدّي الذي يَفترض مقايضة واضحة وعلنية: احتكار الدّولة للقوّة مقابل دولة قابلة للحياة. دولة بقضاء مستقل، بإدارة شفافة، بسياسة دفاعيّة يشارك الشيعة في صياغتها، وبتمثيل سياسي لا يقوم على الخوف ولا على الاستثناء.
أمام هذه المعطيات يمكنُ السؤال عن قدرة الشيعة على التفاوض، مَن يمنعهم من ذلك؟ ولمصلحة أي مسارات يُغلق هذا الباب؟ بالطبع الذي يرفض فكرة التفاوض يضع الشيعة أمام خيارين زائفين: السلاح إلى الأبد، أو الانكشاف الكامل أمام تحوّلات المنطقة. والأخطر في هذه اللحظة أنّ الحزب يواجهُ أيّ طرح تفاوضي بإغلاق الأبواب، وتخوين مصدر السؤال، ولا ضير في تخويف الناس من البدائل المستجدّة.
السؤال الأوّل والأخير الذي يرافق المرحلة اليوم، يتلخّص بما الذي ينتظر الشيعة إذا استمر هذا المسار؟ هل نحن أمام مزيد من العزلة والاستنزاف البطيء؟ هل يمكنُ الربط القسري لمصير جماعة كاملة بمصير حزب واحد؟ كلّ الاحتمالات واردة. ولكن الدفاع عن الشيعة بعد حرب الإسناد لا يكون إلا من خلال تثبيتهم في أرضهم بعيداً عن حالات الطوارئ المتنقلة لهذه الطائفة.
معارضة أم اعتراض؟
في جهة مقابلة، لا يشكّل خصوم حزب الله وحركة أمل داخل البيئة الشيعية قوّة سياسية فعلية حتى الآن. ما يُسمّى بالمعارضة الشيعية هو، في معظمه، حالة اعتراض أخلاقي وإعلامي أكثر من كونه مشروعًا سياسيًا متماسكًا. ربما تكون الأصوات الشيعيّة التي تخرج هي أصوات احتجاج على الأكلاف التي دفعتها طائفة بأكملها. لا يمكنُ للمتابع أن يرى تنظيمًا شيعياً معارضاً قادرًا على ترجمة هذا الاحتجاج إلى نفوذ أو تمثيل. نحن أمام حالة من غياب البنية، والخوف من القطيعة، وضيق المساحات العامة، والخوف الدائم من حملات التنكيل والاضطهاد السياسي. هذه العوامل كلّها تبقي هذا الاعتراض الشيعي من داخل البيئة، في الهامش. وبالتالي لا يواجه الثنائي تحدّيًا جديًا من داخل البيئة بمقدار ما يواجه تآكلًا بطيئًا في شرعيته لبنانياً. “مكانك راوح” بين الاحتجاج والمعارضة، لا تزال الهوّة واسعة. لكن الجملة التي تقدّم الواقع وتنصفه هي أنّ البيئة الشيعية لم تعد كتلة واحدة ولا مزاجًا واحدًا؛ ثمة تعب وأسئلة وتخبّطات كثيرة تبحث عن أفق.
هل يتفاوض الشيعة على مستقبلهم السياسي أم يظلّون أسرى السلاح؟ .