تحوّل لبنان عمليًا في الآونة الأخيرة، إلى حال يشبه أحوال الضفة الغربية وقطاع غزة. تتصرّف حركة “حماس” في تلك الأنحاء من فلسطين التاريخية على أساس أنها لا تخضع للسلطة الفلسطينية التي تتولّى كما هو مفروض زمام الحكم في الضفة الغربية. علمًا، أن كلا الضفة والقطاع يعاني مرارة الاحتلال الإسرائيلي.
في المقابل، يتصرف “حزب الله” في مناطق واسعة من لبنان بدءًا من الضاحية الجنوبية لبيروت مرورًا بالجنوب وصولًا إلى أقسام واسعة من البقاع، كما تتصرّف “حماس” كمرجعية سلطة في تلك المناطق لا علاقة لها فعليًا بالسلطة المركزية التي تحكم ما تبقى من لبنان بكل مؤسساتها المعترف بها داخليًا وخارجيًا.
تحوّل الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، منذ وراثته هذا المنصب من السيد حسن نصرالله العام الماضي، كما كان زعيم “حماس” يحيى السنوار قبل أن يسقط في حرب غزة وكما تتصرف حاليًا قيادة الحركة في الخارج ويتقدمها خليل الحيّة. وينطلق قاسم من موقعه القيادي هذا ليقول، إنه الوصي على مناطق يعتبرها تحت إشراف حزبه، كما كان السنوار سابقًا في غزة وكما يفعل الحيّة حاليًا.
وفي المقابل، يمارس رئيس الجمهورية جوزاف عون دوره الدستوري والقانوني، كما يفعل رئيس الحكومة نواف سلام وحكومته. لكن الأمر في الواقع، يشبه إلى حدّ بعيد حال السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وحكومته والأجهزة التابعة لها. وشاهدنا في الأسابيع الماضية، كيف أن أوامر الرئيس عباس بتسليم سلاح المخيمات في لبنان، نفذها جزء من حركة “فتح” وخالفها القسم الأكبر من الفصائل الفلسطينية. وعلى هذا المنوال، قرر مجلس الوزراء برئاسة الرئيس عون في 5 آب الماضي حصر السلاح بيد الدولة. لكن هذا القرار ما زال نظريًا ولا يبدو أنه سيصبح عمليًا في المدى المنظور.
كرس “حزب الله” هذا التماثل بين أحوال فلسطين وأحوال لبنان من خلال مواقف أطل بها أخيرًا الحزب في مناسبة الكتاب المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة والذي اعتبره “حزب الله” نظيرًا لبيانه التأسيسي عام 1985. وأكد الكتاب تأسيسًا جديدًا للحزب قائمًا على بقاء سلاحه حتى ظهور الإمام المهدي. وكانت المفارقة ولا تزال، أن الدولة ممثلة برئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء لم يعلنا موقفهما من هذا الخروج العلني على سلطتها وعلى قرار 5 آب الذي بات فعليًا حبرًا على ورق.
واكتمل عقد المفارقة والغرابة أمس، بما أعلنه رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما سئل حول ما يقال عن قيام “حزب الله” بإعادة بناء نفسه وترتيب أوضاعه، أجاب: “من الطبيعي جداً لأي حزب أو تنظيم أو مكوّن سياسي أن يعيد بناء نفسه وترتيب أوضاعه الداخلية والتنظيمية بين فترة وأخرى، ومع كل تحدٍ فمن حق “حزب الله” أن يقوم بذلك خاصة بعد العدوان الإسرائيلي. أما المزاعم عن تهريب السلاح من البحر أو البر أو الجو هي مزاعم كاذبة ولا صحة لها”.
ربما هناك حاجة للتوضيح، أن مواقف الرئيس عباس لم تبلغ مرة ما بلغه موقف الرئيس بري من التحاق بـ”حزب الله”. كما أن موقف عباس ما كان مرة شبيهًا بصمت السلطة اللبنانية، لكنه يحاول بقدر ما متاح في ظل أحوال الفلسطينيين في الوطن وخارجه.
كان معوّلا على خطوتين حاسمتين، كي لا يلقى لبنان مصير قطاع غزة والضفة الغربية، هما: نزع سلاح “حزب الله” والذهاب الى مفاوضات مع إسرائيل من دولة لدولة كي تعود الأمور إلى نصابها كما كان الحال على الأقل عندما تم التوصل الى اتفاقية الهدنة عام 1948. لكن أيا من هاتين الخطوتين لم يتحقق، ولا يبدو ويا للأسف أنه سيتحقق.
ماذا بعد؟ يأتي جواب من مقالتين إسرائيليتين منذ بضعة أيام. في الأول في “يديعوت احرونوت” بقلم رون بن يشاي، وجاء فيه: “أن إيران لم تهجر “قناة التآمر الإقليمي” وهي تجتهد لأن تسلح، تعزز وتمول فروعها أيضًا وعلى رأسهم “حزب الله”. هذه الجهود تصطدم هي الأخرى حاليًا بالمصاعب. ومع ذلك ينبغي الانتباه إلى التصريحات التي تنطلق في هذه اللحظة في طهران على لسان مسؤولين كبار في الحرس الثوري وأعضاء البرلمان الإيراني وتقضي بأنه إذا هاجمت إسرائيل “حزب الله” أو إذا هاجم “حزب الله” إسرائيل – فإن إيران لن تجلس مكتوفة اليدين وستنضم إلى التنظيم الشيعي في عمل فاعل ضد إسرائيل. ثمة من يتعاطى باستخفاف واستهتار مع هذه التصريحات، لكن في إسرائيل الاستخبارات في إسرائيل يتعاطون معها بجدية وبحذر من الوقوع في اللامبالاة”.
الثاني في “هآرتس” بقلم تسفي برئيل، وجاء فيه: “ما زال الجيش اللبناني يحاول تطبيق خطة العمل التي عرضها على الحكومة في آب الماضي، والتي تعهد فيها بجمع سلاح “حزب الله” من جنوب نهر الليطاني حتى نهاية السنة. وهو موعد يبدو غير واقعي. ومثلما في سوريا، يتوقع اللبنانيون قراراً من الولايات المتحدة يملي عليهم وعلى إسرائيل تبني ورقة العمل التي عرضها المبعوث الخاص توم برّاك. والتي بحسبها، يجب على إسرائيل التوقف عن هجماتها لمدة شهرين. وخلال ذلك، تجري مفاوضات حول الترتيبات الأمنية، وحول البدء في ترسيم الحدود البرية، وحول تحديد منطقة منزوعة السلاح بين الدولتين. في الوقت نفسه، حسب الورقة، ستنسحب إسرائيل بالتدريج من المواقع الخمسة التي تسيطر عليها في لبنان. إسرائيل حسب أقوال برّاك، رفضت الاقتراح بالكامل”.
تقول تان من دون أي لبس، إن مصير لبنان واقع بين ما ستقوم به إسرائيل ردًا على التحضير الإيراني لـ”حزب الله” للحرب المقبلة، وبين ما سيقرره الرئيس الأميركي دونالد ترامب كي ينقل لبنان من النموذج الفلسطيني الى النموذج السوري. أليس هذا هو الحال تمامًا في الضفة الغربية وقطاع غزة اللذين اصبح لبنان مثيلًا لهما؟
هل أصبح لبنان ضفة وقطاعًا؟ .




